نص كتبه الناقد السوري الدكتور كمال أبو ديب بتاريخ 26 أيلول 2015
لاجئون؟
لا
لا تلصقوا بهم الكلمة.
إنهم سوريون
والسوريون لايليق بكبريائهم اللجوء،
وفي تاريخهم كله لم يلجأوا بل كانوا دائماً يُلجئون.
ولقد كانوا وما يزالون بين أكثر أهل الأرض كبرياء وعزة نفس وشهامة
شمائل توارثوها من عراقة بدأت تاريخ الحضارة
في أرض هي منبت المدنية
و دمشق التي بدأت في غياهب البدء
وما تزال تشع وهي أقدم مدينة مسكونة دون انقطاع
لم يخبُ فيها وهج الإنسان وإبداعه عبر التاريخ.
لاجئون؟
لا.
إنهم الهاربون من الموت،
الناجون من شفرات المقصلة.
هاربون بأطفالهم وكبريائهم ونسائهم من فظائع السلخ بعد الذبح،
والتناثر أشلاء متصادمة في زعيق القنابل
هي ذي أمّ هجرت طفلاً جريحاً لتنجو باثنين
وصبايا عصف بهن رعبُ الاغتصاب بقدر ما عصف بهن رعب التنكيل وجزّ الأعناق والموت ، يخترقن الفيافي بصلابة نصل
وفي تزاحم المناكب والرؤوس ثمة "ناديا" المقعدة في السادسة عشرة، تدفع نفسها في كرسيّ المقعدين بيدين نحيلتين فوق الأشلاء و ركام الدمار والحجارة والوحول من إدلب إلى زغرب
وعلى ثغرها ابتسامة المتعة بالمغامرة لأنها ركبت قطاراً وسفينة لأول مرة في حياتها
تدق أبواب النمسا بيقين أنها ستصل إلى واحة أمان ، تهتف ببراءة
" من يستسلم للفجائع يفنَ"
ونحن لن نفنى.
لا،
لا تصبوا النار في الجراح النازفة فتسمّوهم "لاجئين"
إنهم سابقوا الموت، وعبروا في يأسهم العظيم ، وروعة صبرهم وجلدهم الخارقين، بحاراً وصحارى ، وضربوا هائمين على وجوههم لينقذوا الحياة التي رأوها تذبح وتسلخ وتشوى وتلتهم في سوريا، وصبروا أربع سنين على براكين الموت قبل أن يطاردوا الآفاق وخريطة أوروبا التي لم تأبه لحظة لمآسيهم إلا حين تعفّرت وجوههم بالآلاف على حدودها فصاروا عبئاً على حياتها المترفة وضميرها المحتضِر.
بلى،
إنهم
الهاربون من الموت.
من أجلهم دعونا نحوِّل فيسبوك ، وكل مكان آخر، إلى منبر لحملة عالمية تطالب الدول التي تغلق في وجوههم أبواب النجاة من الموت أن تدرك أنها تغلق بذلك أبوابها أمام روح النبل والتعاطف في الإنسان وتطعن روح المحبة والقيم السامية في المسيحية التي تزعم أنها تنتمي إليها وعليها بنت حضارتها، بل إنها تطعن هذه الروح في أعماق سكانها أنفسهم. ولنطالب هذه الدول أن تتذكر أن معظمها ذات يوم تعرض لأهوال الحروب واجتياح الجيوش وتشريد السكان وأن أهلها بحثوا عن أمان ولقمة عيش كريمة في بلدان أخرى.
ولنذكّر بعضها أيضاً بأنها سبب أول في ما حدث من دمار لسوريا وتشريد لأهلها وتحويلهم إلى هاربين من الموت، لأنها بادرت ، دونما ذنب اقترفته سوريا تجاهها، لتوقد نيران الصراع وتدعم الأطراف المتذابحة منذ أن بدأت الجمرة تتوهج وكانت ما تزال قابلة للانطفاء.
ومن أجلهم أيضاً
لنطلب من البشر العاديين الطيبين في كل بلد ، ومن الكتاب والمفكرين والفنانين وغيرهم، نساء ورجالا وشبابا وكهولا، أن يفتحوا قلوبهم و بيوتهم و بلدانهم لهؤلاء الذين يحملون نزيف جراحهم ونزيف كبريائهم هائمين في صحارى الانسانية باحثين عن مكان لا يحوّم فيه تنين الموت والجريمة فوقهم ليل نهار.
لاجئون؟
لا.
إنهم المنتصرون على الموت وفظائع القتلة، الباحثون عن روح النبل في الإنسان في عالم يدعي الحضارة وتقديس حياة الإنسان وكرامة الإنسان وحق الإنسان في حياة كريمة شريفة آمنه.
ولقد عاش السوريون حياتهم حيثما هاجر بعضهم عبر السنين كريمة شريفة آمنة . وليس في العالم كله بلد هاجروا إليه فأفسدوا فيه واكتسبوا سمعة سيئة، بل لقد أسهموا حيثما رحلوا في البناء والتقدم: من العامل بيديه إلى العالم بعقله ومن السياسي الذي صار رئيساً لموطنه الجديد إلى التاجر الذي أثرى فأغدق مما كسبت يداه وجهده على الآخرين.
لاجئون؟
لا.
إنهم
الذين سينتصرون ثانية على الموت.
Post a Reply