أنسي الحاج

أنسي الحاج المعلم ، مجموعة من المقالات ، خواتم ، قصائد نثر ، مقتطفات ، عابرات ، مقابلات ، لقاءات ، حوارات ، وغيرها الكثير

دار الجديد تغيّب أنسي الحاج عن القارىء العربي

طوال السنوات الماضية و أنا زائر منتظم لمعارض الكتاب في عدة مدن و بلدان منها القاهرة وأبوظبي والشارقة….الخ . وعادة ما تقدم تلك المعارض خدمة الاستفسار عن كتاب سواء عن طريق اسم الكاتب أو عنوان الكتاب لتسهيل الحصول على الكتاب من خلال الخدمة الالكترونية. في كل مرة أقترح اسم الأستاذ أنسي الحاج أو اسم أحد مؤلفاته فلا أجد أي مؤلَف أو ذكر لأنسي الحاج، ليأتي جواب موظف الخدمة : عذرا لا وجود لإسم المؤلف أو الكتاب!

خلال معرض الكتاب الأخير في الشارقة والذي زاره أكثر من مليون زائر بحسب إحصائيات القائمين على المعرض،  سألت أصدقائي المسؤولين عن دور النشر عن سبب غياب اسم كبير مثل أنسي الحاج عن المعارض ، معظمهم أخبرني أن الأستاذ ينشر من خلال دار الجديد، وهذه الأخيرة لا تحضر معارض الكتاب. 

لا أعرف من هو ناشر كتب الأستاذ، لكن ما أعرفه جيدا أنني لم أصدف دار الجديد في أي معرض من معارض الكتب التي زرتها، اللهما إلا معرض بيروت الذي لم أزره بعد!

معرض الشارقة للكتاب

أنسي الحاج-الهواء وحيداً يختنق

هناك ظلمٌ في مشهد الحبّ للمحروم من الحبّ أو العاجز عنه. المحروم سيلحق بالحبّ بين يوم وآخر، لكن العاجز عن الحبّ لا بدّ له من اجتياز الجحيم.
أصعب أنواع التحوّل هو هذا. أشبه بالمعجزة. بولادةٍ من المقلب الآخر للدماغ.
البالغ إلى الحبّ بعد صحراء لن يعود قادراً على التصحّر. العجز سيغدو عجزاً عن الماضي.
ولا نخطئ فنخلط بين الحبّ واللعيان العاطفيّ أو الحبّ وغريزة إشباع الرغبة. في الحبّ أيضاً غريزة، لكنّها نعرة الينبوع المتململ تحت الحجارة قبل أن يتدفّق بعطائه الأعمى الغامر.

العاجز عن الحبّ قد يعوّض بالحريّة، وهي بالفعل تُعوَّض، ولكنْ كمَن يهرب من مرآةٍ إلى مرآة ولا يرى إلّا الصورة التي أراد أن يتجنّبها. الحريّة أريَحُ من الحبّ، راحة الهائم الخاوي، ولكنْ إلى متى؟ هل يكتفي الهواء بأن يكون هواءً في مدى بلا بحر ولا نهر ولا شجر ولا كائنات؟ مَن يداعب عندئذٍ، مَن يلاعب، مَن يُحرّك، كيف يشعر بوجود نفسه؟ قد يلعب الهواء مع نفسه ليلتهي، كما يفعل النرجسي، لكن النرجسي بحاجة، ولو بين الحين والحين، إلى حطبٍ لمدخنته، إلى معجبٍ يلقم إعجابه بنفسه، يُجدّد نظرته العاشقة لنفسه، وإلّا جفّ وتفكَّكَ من الرتابة. الحريّة غير المتلاطمة العواطف، غير المسكونة إلّا بصاحبها، عُنوسٌ عنكبوتيّ حزين.

والهواء وحيداً يختنق.

أنسي الحاج -الهواء وحيداً يختنق

عيــــــــــون- أنسي الحاج

 

أنسي الحاج
جريدة الأخبار اللبنانية 
 السبت ٢٣ شباط ٢٠١٣
 
 
ليكنْ باقي جسدكِ في مستوى عينيكِ.
 
■ ■ ■
نظرةٌ تسبق سقوطاً في الأحضان مع أنّها تقول غير ذلك.
نظرةٌ محجبَّة تزيح المعطف عن عري.
نظرةٌ ستخون لحسن حظّ البراءة.
نظرةٌ وَجَدَتْني.
نظرةٌ سوف أظلّ أبحث عنها فأجدها ولن تعود تجدني.
 
■ ■ ■
في نظرات الغريب يختلط الخجل بالوقاحة. من مسافةِ أمتارٍ في المقهى، بين طاولةٍ وطاولة، يأخذ التجاذب مداه. يتداعب الغريب والغريبة ويتعانقان بالعيون من وراء أكتاف رفاقهما. ثم ينفرط الجمع وتؤوب رياح الرغبة.
كم من حبٍّ اكتملَ بالنظر ثم ضاع إلى الأبد!
 
■ ■ ■
يختفي الإنسانُ لا حين يموت بل حين لا تعود العيون تتوقّف عنده. فليمتشق عيون الذاكرة، لا فرق.
الحِيَلُ لا تنفع ضدّ الزمن. ربّما تنفع في ما بعد الزمن. الحِيَل لا تنفع إطلاقاً. الشخص الذي تنحسر عنه العيون سينجو باعتبارها هي التي اختفت!
 
■ ■ ■
عيناكِ سماءٌ تستحمُّ من رأسها حتّى جحيمها.
 
■ ■ ■
لا يكفي أن نَرى: يجب أن نُعمى من الرؤية!
 
■ ■ ■
يضحك وجهكِ كدعوةٍ إلى الرقص وتَسْوَدُّ عيناكِ كطلائع العاصفة.
 
■ ■ ■
العيون طبقات، أعظمها تلك التي تمتلك موهبتين: إشعاركَ بالذنب حتّى الذوبان وغَسْلُكَ منه حتّى الهذيان.
 
■ ■ ■
أجملُ ما في حبٍّ عنيف، أن يمارس وجوده برقّةٍ متناهية.
 
■ ■ ■
العيون ليست مرايا روح صاحبها بل المرايا هي في الناظر إلى العيون. والروح، الروح، الروح هي في عينَي الناظر إلى العيون.
الروح هي البخور المتصاعد من ناظرَي الناظر.
 
■ ■ ■
عينا المرأة خصوصاً. متّصلتان بأعمق من أحلامنا. متّصلتان بأمّهاتنا. بوعدٍ مهما تَحَقَّق يظلّ إلى الأمام.
 
■ ■ ■
لملمي أسراركِ. لا تظهري لي منها إلّا الفتّان.
أنا وَلَدٌ شجاع ولكنْ ليس إلى حدّ تَقَبُّل الوقائع.
 
■ ■ ■
ليكنْ باقي جسدكِ في مستوى عينيكِ.
 
■ ■ ■
العيون التي لا ترى هي المسؤولة عن إعدام الحبّ. العيون الباردة الجامدة. العيون التي تُجمّد القلب ولا تغرقه.
لا أظنّ بلداً أغنى من بلدي بهذا المقدار من العيون السوداء. ومع هذا قليلها يبْرق. حتّى الغيم، سواء غيم الحزن أو غيم الغباء، يكاد لا يخطر فيها. لم تكن هذه العيون العاديّة، لم تكن من زمان… ما الذي جاء بها؟ ما الذي سبَّبها؟
هذه العيون هل تعرف ماذا تفعل بالعيون المحترقة على انتظارها؟
وهل غَصّتكَ إلّا لأنّك عشت؟
عيونُ غزلانٍ لا تَدْمع، هذه العيون الجديدة. عيون ماء لا يروي. عيونٌ مهاجرة منها روحها. عندما تنظر العيون العاشقة إلى هذه العيون الباردة، اليوميّة، يحكم الظلمُ الأرض.
لا يشبع الجائع وإلّا مات. والذاكرة لا تُغْني بل تُفْقِر. وكيف يُسأل الهائم عن غايته وهو هائم؟ وهل يقال للضائع استَرِحْ؟
العيون تعرف الجواب. العيون كانت تعرف الجواب. كانت تعرف المهجة والخطيئة والليالي. العيون كانت تتعارف في ما بينها.
العيون هي الأفيون. انظرْ مليّاً ترَ دخانه يحوّم تحت الجفون.
 
■ ■ ■
تاه ذاهب اللبّ كسيراً دامي القلق. اندلعت في صدره لهبة الخوف. انسدّت الدنيا في عينيه وتغلّقت النوافذ، تغلّقت الوجوه، تغلّقت الأبواب.
وأطلّت عليه عينا بلاغةِ النظر، فوقع في أسْر قضبان سجنهما، وعَبَر من تيه الاختناق إلى تيه الأسْر اللذيذ.
 
■ ■ ■
الكحل غير كافٍ. طوّقي عينيكِ بأحلامِ الرجال.
 
■ ■ ■
ابتسامتكِ استقبال، ضحْككِ ترحيب، ظلمةُ عينيكِ السكرى تنادي: كسّرْ غصوني!
 
■ ■ ■
العيون تجعل رائيها شريكاً في سفك دمه.
 
■ ■ ■
… وأجملها ما تختزن ذكرياتها لتهديها إلى الناظر. ما تَفتتح الأمل. أجملها ما تظنّه بين الصمت والبكاء، بين الخوف واللهفة. تلك العيون التي لم يخفق صدر مثل خفقانه لها، لم يُكتَب أجمل ممّا كُتب تحت تأثيرها.
العيون التي ينتسب إليها الرائي بكلّ يديه، بنداء أحشائه، العيون الميناء، العيون المُنجّمة، عيون النداء والحماية، عيون الأهداب الإلهيّة، عيونُ خَلْع الأبواب، تلك العيون لمَ لم نعد نلتقيها؟ لمَ لم تعد تنظر إلينا؟
… الحِيَلُ لا تنفع ضدّ الزمن…
اسبَقْهُ!…
***
ليكنْ باقي جسدكِ في مستوى عينيكِ.
 
■ زواجٌ هنا طلاقٌ هناك
استوقفني كلامُ السيّدة أوغاريت يونان في برنامج «بموضوعيّة» مع وليد عبّود على «ام.تي.في» الاثنين الفائت. كلامٌ ينبّه رجال الدين إلى ضرورة الكفّ عن التخويف والمَنْع والبدء بالبحث عن حلولٍ للمشاكل. استوقفتني شجاعةُ يحيى جابر وفراس حاطوم ونانسي السبع. وفرادةُ الأب جورج مسّوح وهو يعلن علمانيّته وتأييده المطلق للزواج المدني. نوابٌ يمعنون في تمزيق البلد مذاهب عبر إقرار المشروع الأرثوذكسي (الأرثوذكسي الحقيقي كان الأب مسّوح ذلك اليوم) ونُخَب من المجتمع تجهر بعلمانيّتها ورفضها التعصّب واحتقارها كلّ ما يؤدّي إليه.
لماذا الزواج المدني، والزواج المدني الإلزامي تحديداً، مع جعل الزواج الديني اختياريّاً؟ لأنّه السبيل الوحيد لاختلاط الدم الطائفي وإنجاب أجيال تنمو في منأى عن التمييز الديني. هذا هو الحجر الأوّل في مشروع بناء الدولة وفي التهيئة لولادة مواطن مدني لا نعجة طائفيّة.
وبورك في موقف رئيس الجمهوريّة.
 
■ خلافاً لما نظنّ
الموت صعبٌ في البداية. يهون مع الوقت. في السنوات الأولى من العمر هو موت. في الطفولة إجهاض، في الصبا قَتْل، في الكهولة ألم، وفي الشيخوخة إجهاز.
خلافاً لما نظنّ، الشيخوخةُ ليست عمراً. الشيخوخة إشاحةُ النظر عنك. يصبح كلّ الزمن في العجوز ويصبح العجوز، عوضَ أن يتوهّج بكنز الزمن، نعشاً له.
خلافاً لما نظنّ، الجمالُ ليس الجمال، ليس العينين ولا الفم ولا فنّ الحبّ، الجمالُ هو الصبا. الحياة هي الصبا. انتحارُ العجوز ليس انتحاراً بل هو إتمامٌ لمراسم التواري.
خلافاً لما نظنّ، الإمعانُ في العمر ليس شجاعة، ليس دليل عافية، إنّه شراهةُ المُسنّ اللزجة، ولا أحد يحبّها. إذا بقي العجوز صالحاً لرواية حكايات الأطفال، فهذا مبرّرٌ لوجوده. احكِ أيّها العجوز للطفل كي يحلم، لم يعد بينك وبين الحلم غير هذه الصلة.
الموت صعبٌ في البداية. النهايات يَسْترها الموت.
 
العيون-أنسي الحاج

أنسي الحاج- لا مفاجأة في لبنان

أنسي الحاج

جريدة الأخبار اللبنانية
السبت ٩ شباط ٢٠١٣

 

 

لم يعد هناك مفاجأة في ما يُحَضَّر للبنان. كلّه صار وراءنا. بالكاد تغيّرت وجوه. الباقي صامد في مخالبه ونواياه. والوكلاء والمنفّذون جاهزون. بالكاد هناك شخص شخصان يعذّبهما التردّد، يتوجّسان من الغَطْس. الباقون محسومة لديهم. لم يعد هناك مفاجأة في ما يُحضَّر للبنان.
نكتب من وحي الجوّ العام. نكتب من باب الصحافة. كأنّنا نحكي عن شيءٍ حصل وليس قد يحصل. رائحة الإعادة تزكم الأنوف. «حزب الله» محلّ «الحركة الوطنيّة» ومنظّمة التحرير الفلسطينيّة، و«تيّار المستقبل» محلّ الكتائب والأحرار وحرّاس الأرز. تغيّرت الهويّات الطائفيّة لمواقع الثقل وظلّت قواعد اللعبة على حالها.
ومحلّ «المناوشات» (كأنّهم يقولون «مناغشات») بين عين الرمّانة والشياح عام 1975، «مناوشات» بين بعل محسن وباب التبّانة أو زاروبين في عين الحلوة، ثم استعراض لأحمد الأسير وصراخ لخالد ضاهر وحرق دواليب في كسروان ومعاقبات لبطرس حرب على كونه ضحيّة.
ومقتَلَةٌ في عرسال. كيف يقع الجيش في كمين؟ كيف يدخل بضعة عسكريّين إلى ساحة زاخرة بالخطر؟ وكيف نؤيّد الجيش بتلويث الهواء وخنق الأطفال ومرضى الرّبو والسلّ بدخان الحرائق؟ وكيف ينتشر فجأةً حزب الدواليب ولا يظهر مرّة حزب الشعب الواحد في تظاهرة أو اعتصام ضدّ الفساد والخيانة؟
لا جديد تحت الشمس. التقسيم حصل بدون إعلان. وإذا كنّا نحتاج إلى مَن يذكّرنا ببؤسنا السياسي فقد توافرت لنا البراهين في رأس السنة مع تنبّؤات أصحاب السيادة وصاحبات العصمة من الضاربين بالرّمل. إرهابٌ من نوع جديد. أشخاصٌ عصبيّون لا يتحمّلون مقاطعتهم. يقولون لك بعبوسِ نوستراداموس إنّ الأيّام حبلى بالأحداث وعلى فلان الانتباه إلى صحّته وإنّ الشرق الأوسط سيشهد توتّراً. زعيمهم ميشال حايك صحافي برتبة نبي. فتاهم مايك فغالي يعرف الجواب قبل سماع السؤال. سيّدتهم ليلى عبد اللطيف تقول ما لا يعني شيئاً لتعود بعد «حصوله» وتؤكّد أنّ ما «رأته» حصل. وهناك جمعيّة فَلَكيّة لها هرميّة وتُطلُّ من وراء الغيوم ولها رئيس ونائب رئيس وأعضاء ولحىً ونظّارات وبلّور ومفردات تستعصي على الحسم.
والجميع رغم هذا يرى ويعرف. وإنْ لم يحصل ما يقتلنا سنموت ضجراً على كلّ حال.

 

■ ■ ■
كلّما شاهدتُ عند الفجر عمّالاً وعاملات يسعون في الصقيع والحرّ إلى أشغالهم هتف قلبي: ما أطيب هذا الشعب!
في ظلام الفجر!
من أجل بضعة دولارات.
وحكّامهم يتلاعبون بالمليارات ومعارضو حكّامهم يرتعون في الدور والقصور ويراكمون المليارات.
في ظلام الفجر!
«والله يا أستاذ أنت أوّل زبون» يقول لك بائع الملابس قبل الإقفال، «والله يا أستاذ أنت أوّل راكب» يقول لك شوفور التاكسي آخر الليل.
لكنّ الأراكيل تؤركل بلا أزمة.
وما من برهان على اليأس أوضح من ثقافة الأركيلة.

 

■ ■ ■
لا بدّ من إرهاب فوق هذه الإرهابات. فوقها وأعمق منها.
إرهابُ الشعب بكلّ أطيافه مضروباً بإرهاب النخبة في أطهر أدمغتها.
وهو غير موجود.
بَدَل الانتفاضة الحرّة المحرِّرة يزداد الشعب عدم وجود، ويزداد احتمال تَكوّنه يوماً، استحالة.
كنّا طوائف وصرنا مذاهب وسنصبح مذاهب في المذاهب.
زعماؤنا وحكّامنا يسرقون ونحن الفقراء لله نتسوّل ونتكيّف مع الطعام المسرطن والشراب المسرطن والدواء المسرطن.
كنتُ بالأمس أقرأ في مجلّة «شؤون جنوبيّة» عن قريتين في الجنوب، بصليّا ورامية، لم يبقَ فيهما من السكّان إلّا بضعة أشخاص. عجائز وأطفال. رامية جارة عيتا الشعب 617 هكتاراً «تكاد وأنت تتجوّل في شوارعها تظنّ أنّها خالية من السكّان»، وبصليّا كان عدد سكانها 500 ولم يعد فيها سوى عشرين شخصاً.
وغيرهما في الشمال، وبعضها أُغلقت الأبواب والشبابيك في كلّ منازلها.
فيلم كاوبوي يموت فيه الجميع ولا يبقى حيّاً إلّا المخرج.
أوراقُ خريف تتراقص كالعفاريت فوق الفراغ.
من زمان وهم يُغنّون راجعون، باقون، يا أرض بلادي، الشعب العنيد…
ويا مهاجرين رْجَعوا.
ولماذا يرجعون؟
المقيمون لو استطاعوا لهربوا.

 

■ ■ ■
والآن تونس. ما أشبه التونسيّين بوجه صحّارة اللبنانيّين. إخوتنا من أيّام قرطاجة وأطيب منّا. لا يطالعك في وجوههم غير التمدُّن والنور.
الآن ينعرونهم في اغتيال شكري بلعيد، شهيد اليسار العربي.
أوّلاً البوعزيزي يحرق نفسه وثانياً الأمين العام لحزب الوطنيّين الديموقراطيّين الموحّد في تونس يسقط شهيد الغدر.
في كلّ تاريخ تونس لم تتجاوز الاغتيالات عدد أصابع اليد الواحدة. مجتمعٌ ناهض ومسالم ورائد كبير من روّاد الرقيّ. استشهاد شخص واحد كان كافياً لفرار رئيس الدولة ولإعلان الانتفاضات العربيّة ضدّ الأنظمة الديكتاتوريّة.
ماذا يُراد لتونس؟ مَن يتلاعب بهذا البلد الذي لم يعرف غير البشاشة والنضارة؟
من هنا، على عكس لبنان، انطلقت مفاجأة البوعزيزي الصاعقة.
وهنا، على عكس لبنان، دوّت المفاجأة الإجراميّة.
كان شكري بلعيد يلقّب الحكومة التونسيّة بأنّها «حكومة استعمار قَطَري جديد». وحين اغتيل هوجم أداء الحكومة وحُمّلت مسؤوليّة التسبّب بالجريمة، وقال مؤيّدو الحكومة والإسلاميّون إنّ مدبّري الاغتيال هم «أصحاب المصلحة في إفشال الثورة».
أيّ ثورة؟
رمي هذا الحجر في البركة التونسيّة زلزال. لا نريد تشبيهه باغتيال معروف سعد قبيل اندلاع الحرب اللبنانيّة. نتمنّى أن يكون فداءً عن تونس. فداءً وكفى.
حمى الله تونس.

 

■ «مجاراة المحموم في هذيانه»
اقرأ «مجاراة المحموم في هذيانه» للكاتب (أفضّلها على الشاعر والأديب والروائي والناقد لأنّها أقلّ ادّعاءً وأكثر احتراماً) الكويتي نشمي مهنّا (الدار العربيّة للعلوم ناشرون). شهاداتٌ صادقة ملوَّعة، مجروحة في أحلامها ومثاليّاتها. استوقفتني فصولٌ عديدة بينها «ترجمة الألم»، حول ناديا تويني. «أيّها البلد، أنا أهديك الموت»، من إحدى قصائدها. يقول: «ناديا، أتخيّلها شابّة مارونيّة جميلة، كما قالت لي الصور. لا صورة لناديا على فراش الموت، ولا لقطة لها في أيّامها الأخيرة. ماتت طازجة كعروس مزفوفة إلى أمير الفرح. جبران كذلك مات في نضارته وعنفوان نهاره. أخوه مكرم مات بلياقة تُكابر طيش الموت فاصطدم به. أختهما أيضاً. هل كانوا ينفّذون وصايا الأمّ الشابّة الصغيرة؟
«(…) الآن لا تهمّ قراءتي لسيرة العائلة ولا اكتشافي نسب ناديا للبيت الدرزي العتيق (…) أحبّ ناديا ويكفي، وأحبّ نبوءاتها: أن نتعلّم بعيوننا كيف نغفو في الحلم، ولكن أن نعرف كيف لا نخيف الموت».
هذا الكاتب قريب، قريب جدّاً، كأنّه لم يكن إلّا بيننا.

 

■ هوارد هيوز
نوعان من «الغرباء»: واحدٌ مرتاح في ممارسة غرائبه إلى حدّ يحمل معه الآخرين على تقليده، ممّا يكدّره ويكرّهه بنفسه، وآخر مضطرب مشوّش في ممارسة غرائبه ممّا ينفّر منه الآخرين ويزيده اغتراباً.
قصّة حياة الملياردير الأميركي هوارد هيوز (مثّل دوره في السينما ليوناردو دي كابريو واضطلعت كيت بلانشيت بدور زوجته الممثّلة كاترين هيبورن) مثالٌ لبعض عذابات أفذاذ المشاهير. زعيم الطيّارين، منتج النجوم، بطل مغامرات المال والعشق بنحو عبقريّ أخرق، راءٍ في الأعمال، موسوس نظافة حتّى الجنون، لم تبق أسطورة إلّا ألصقت بهذا الرجل الذي صنع شهرة المشاهير وكان يخاف الحشود ويهرب من المصافحة. مَثَل هوارد هيوز كان وما زال يطرح للجدل مسألة جدوى النجاح وجدوى الثراء وجدوى النبوغ. كم منّا يستطيع القول إنّه صادف مشهوراً أو متفوّقاً أو مليارديراً أو عبقريّاً هانئاً في حياته؟
إذا لم يُصَب في أحبّائه أو في صحّته أو سمعته أصيب في شخصيّته، فإذا بأشباح الميكروبات تسمّم علاقاته وتنتهي بإطاحة عقله.
ما الذي يجرح بلّور التميُّز؟ ما الذي يثقب جناح الصعود؟ ما الذي يعيد الطائر المحلّق إلى الحضيض؟
مَن أنتِ أيّتها العين؟
لماذا الكائنات مرصودة بلا رحمة؟
أنسي الحاج- شكري بلعيد-تونس

أنسي الحاج- تَبادُل أَم لا تبادل؟

 

أنسي الحاج
جريدة الأخبار اللبنانيّة
السبت ٢ شباط ٢٠١٣

■ سوريا في كتاب

«المطالب الصحيحة للشعب السوري، وهي الحريّة والديموقراطيّة والقضاء على النهب والفساد، ومحاسبة اللصوص والمجرمين، وتأسيس دولة عصريّة جديدة، لا يجادل فيها أحد. لكنّ هذه الغايات النبيلة راحت تتحوّل على أيدي الجماعات التكفيريّة والجماعات الثأريّة والطائفيّة والعصابات المقاتلة إلى مجرّد صرخة (…) وما نخشاه هو أن تكون غاية الحرب في سوريا هي فرط الجماعة الوطنيّة وتفكيك الاجتماع البشري السوري، الأمر الذي سيؤدّي إلى فرط الدولة التي نشأت على فكرة العروبة، عقب الاستقلال، وسيكون من المحال إعادة تكوينها إلّا بصورةٍ شوهاء، وعلى هيئة المجتمع المفكّك والمتكارِه والمتعصّب.

العروبة هنا قوّة دمج لمجتمعٍ شديد التعدّد والتنوّع. ومن دون العروبة لن يتمكّن السوريّون من بناء دولة المستقبل القائمة على المواطَنة المتساوية، بل سيتحوّلون إلى سنّة وعلويّين وإسماعيليّين ودروز ومسيحيّين وأكراد وتركمان وشراكسة وإيزيديّين وأرناؤوط وأبخاز، مجرّد متحف بشري لأقوام متناحرة».

في كتابه الجديد «أعيان الشام وإعاقة العلمانيّة في سوريا» (المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر) يقدّم الباحث صقر أبو فخر صورةَ أشعّة مفصّلة للواقع الجغرافي _ السياسي السوري انطلاقاً من القرن التاسع عشر، كاشفاً، وبالتركيز على الأحداث التي راحت تتوالى منذ 1963، عن العوامل التاريخيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة التي تضافرت لتمكين الاستبداد من التحكّم في سوريا.

يعلن أبو فخر «انحيازه التام» إلى تيّار الديموقراطيّة والعلمانيّة في الأقطار العربيّة، «وهذا الانحياز يضعني في مواجهة فكريّة وسياسيّة مع التيّارات الإسلاميّة السلفيّة والأصوليّة معاً، وفي مواجهة مباشرة مع الاستبداد. وخياري هو الدولة الديموقراطيّة العلمانيّة العربيّة التي تكون فلسطين جزءاً عضويّاً من ثقافتها وتفكيرها السياسي وتكون القضيّة الفلسطينيّة ركناً أساسيّاً من سياستها الخارجيّة. وهذا الأمر ليس معروضاً على جدول الجماعات الإسلاميّة المتحرّكة في سوريا اليوم».

يسلّط الكتاب ضوءاً بليغاً على العزلة الأليمة التي صارت إليها فكرة العروبة الديموقراطيّة المتنوّرة. كانت الحكومة السوريّة الأولى تضم وزراء من العراق وفلسطين والأردن ولبنان ومارونيّاً من دير القمر. صورة مصغّرة عن رؤية السوريّين للوحدة. كأن المعلّم بطرس البستاني هو الذي شكّل تلك الحكومة. بصرف النظر عن أصوات متعصّبة تكفيريّة كانت وما زالت تشوّه صورة العرب في جميع بلدانهم، كانت سوريا لا قلب العروبة النابض فحسب بل قلب العروبة العلمانيّة الديموقراطيّة التوحيديّة الجامعة المترفّعة الحكيمة العليمة. وهو ما كتّل ضدّها الجهود الاستعماريّة لتفكيكها ومحاولة تقسيمها منذ الانتداب الفرنسي وسَلَخ ما سُلِخ منها هنا لتركيا وهناك للبنان وهنالك لإسرائيل.

ننصح بمطالعة هذا الكتاب بوجه خاص لأجيال اليوم الذين تُغيَّبُ عنهم حقائق التاريخ. وننصح بمطالعته للمندفعين إلى التيّارات الانغلاقيّة والظلاميّة ليكتشفوا كيف شعَّت فكرة العروبة والدولة العربيّة العابرة الأديان والأعراق من دمشق بني أميّة. وننصح بمطالعته لحكّام سوريا ومعارضيهم معاً، علّهم يجدون حلولاً لمشاكل الأقليّات والقمع والإرهاب والخوف خارج هذا الدم الذي لا ينتهي.

ونضمّ صوتنا إلى صوت الأستاذ أبو فخر في جمعه كذلك بين رفض الاستبداد ورفض الأصوليّات والسلفيّات الإسلاميّة. ومن الهراء اللحاق بموجات المواقف، أيّاً تكن وجاهتها، التي تسمح لأنهار الدمار والدم بأن تستمر في التدفّق. لا بدّ من طرف ثالث فوق النزاع المتوحّل، أقوى من السلطة ومن محاربيها، يحمل مشروعاً ديموقراطيّاً علمانيّاً توحيديّاً ويتمكّن من حمايته وإيصاله.

طرف ثالث نتمنّى أن يكون داخليّاً ولا يجوز أن يكون إلّا داخليّاً. سوريا بحاجة إلى إنقاذ لا إلى غَلَبة.

 

■ انطواء «الآداب»

كلّما توقّفت مجلّة أدبيّة عن الصدور تموت في نفوسنا حوريّة. وداعاً لـ«الآداب». انطفأتْ شمعةٌ عربيّة من لبنان. صدرت بروحين، روح سهيل إدريس المنفتحة والمصارِعة أدبيّاً وروح سماح إدريس الصادقة والمصارِعة سياسيّاً. منذ الخمسينات إلى البارحة حملت «الآداب» مشعل الأدب والفكر أصالةً وتَجدّداً وكادت مراراً تتوقّف عن الصدور لولا الصبر والعناد. الجيل الأوّل من القرّاء كان شديد الحماسة والجيل الثاني شديد الضياع. بات سحر الورق لا يفعل إلّا في جاليات من هنود الذوّاقة الحمر.

مَن منّا، قرّاء وكتّاباً، لم ينشغف بـ«الآداب» إيجاباً أم سلباً. كاد لم يبقَ ذو نور في العالم العربي إلّا أطَلَّ منها أو أطلّ عليها.

وها هي تموت مجلّة في حجم العالم العربي.

 

■ تَبادُل أم لا تبادل؟

هل مَن تراهن عليه في خيالك مسؤول عن فشل رهانك؟

ومَن لم تَنقل له أفكارك هل تعتبره مسؤولاً عن لامبالاته بها؟

«يجب» أن يكون كذلك، في نظر المؤمنين بحتميّة التبادل: فمَن تكرهه لا بدّ أن يكرهك ومَن تحتاجه لا بدّ أن يحتاجك. والأهمّ: مَن تحبّه لا بدّ أن يحبّك.

بشرط أساسيّ وهو أن يكون بين الفريقين إقامةٌ في موجة واحدة، فيتمكّن الواحد من رؤية الآخر ومقاربته مباشرة.

كنتُ من المعتقدين بالتبادل الشعوري، على أن يكون الشخصان كالقابس والمقبوس، على اتصال كهربائيّ أو مغناطيسيّ، هذا يأخذ والآخر يعطي، وكلاهما في الواقع يأخذ ويعطي، فالضوء نتاج الاثنين ولا يعود السلب هنا سلباً صرفاً وإنّما سلْبٌ انتظاريّ يحدوه شوقُ التحوّل بدوره إلى إيجاب. وهو شوقٌ إذا نفد صبره قد ينغمس في اتخاذ المبادرة.

تقلّ نسبة صحّة هذه النظريّة بارتفاع الفوارق العمريّة والمزاجيّة والثقافيّة، وتغدو نقاط القوّة في كفّةِ الصِبا أكبر من عناصر الجذب في كفّة الكهول والكهلات والشيوخ والشيخات. في بعض الأحيان يبدو أنْ لا وجود إطلاقاً لما يحول دون تلاقي الطرفين، ومع هذا لا يتلاقيان. قد يكون العائق خفيّاً، لكنّه موجودٌ بالتأكيد، وغالباً ما نعثر عليه في غرورِ أحد الطرفين وتوهّمه أنّ هذا القَدْر الجارف من الرغبة لديه لا يمكن أن يُقابَل إلّا بمثله.

لا نتحدّث هنا عن المعشاق والمعشاقة، فالحالة الدونجوانيّة منفتحة على «الطريدة» أيّاً تكن شرط تمتّعها بما يفتح الشهيّة. نتحدّث عن تلاقي الراغبين في نمط معيّن.

ونتساءل من جديد: مَن يتحمّل مسؤوليّة عدم تحقّق مثل هذه العلاقات إذا توافرت عناصر الجذب والانجذاب؟ هل هو غيابُ عناصر أخرى؟ أم هو عدم التصارح في تبادل المشاعر واتّكال كلّ واحد على مبادرة الآخر؟

لقد انطلقنا من افتراض وجود التبادل الشعوري حتماً. لكنّ الواقع غير ذلك. الواقع يقول إنّ الحبّ (أو الكره) ليس دوماً متبادلاً، والحبّ من طرف واحد موجود وقد يدوم أكثر من الحبّ المتبادل، ولعلّه يبدو أجمل للمتفرّج عليه كما يتفرّج السائح على معروضات المتحف. ويقول الواقع إنّ «حتميّة التبادل» خرافة ابتكرها عشّاقٌ نرجسيّون لا يصدّقون أنّ هناك معشوقات لا يبادلنهم شعورهم، أو عشّاق جبناء يعتصمون بأوهامهم.

وما أغزر ابتكارات الضعفاء والجبناء!
أيّاً يكن، يبدو كأنّنا لا نختار. لا مَن نحبّه نختاره ولا مَن نختاره. فنحن نجد دون أن نبحث. أو هو يُوْجَدُ لنا…
وعندما لا يعود هذا ولا ذاك تكون الغربة قد جاءت.

عابــرات

انخداعُ الذَكَر بالأنثى هو في الاتجاه الجمالي وانخداعُ الأنثى بالذكر هو في الاتجاه الكمالي.

■ ■ ■

كلّما قيل إنّ العالم يتغيّر تذكّرتُ أنّ المشاعر ذاتها ما زالت تعروني حيال الأشخاص أنفسهم وللأسباب ذاتها.

■ ■ ■

أجملُ ما أحبّه فيكِ أنّكِ متنبّهة لما تُحْدثينه في الآخر أكثر ممّا أنتِ متنبّهة لمشاعركِ حياله.

■ ■ ■

مهما بلغتِ من الأنانيّة فستظلّين وراء الرجل الأناني بمسافات. كلّ شيء في الطبيعة يحدُّ من أنانيّة المرأة، من الخجل إلى حاجة الإعجاب ومن الحَمْل والأمومة إلى ما فُطرت عليه من شفقة. ثم إنّ أنانيّة المرأة مَصْيَدة لها وأنانيّة الرجل مصيدة للآخرين.

■ ■ ■

مهما بلغت المرأة من الذكاء فسيظلّ ذكاؤها قاصراً عن إنارة نفس الرجل أمامها كما ينيرها لها الحَدْس. مهما بلغ الرجل من الفحولة فلن يتوصّل إلى اشتهاء المرأة كما تشتهي المرأة بدون ستارة خياله الحمراء.

 

أعيان الشام وإعاقة العلمانيّة في سوريا

أنسي الحاج- شعوبٌ حلولها مشاكل

أنسي الحاج
جريدة الأخبار اللبنانية

السبت ١٩ كانون الثاني ٢٠١٣

 

لماذا لا أصدّقه؟ سؤال أطرحه على نفسي كلّما انتهيتُ من قراءة مقالٍ لبعض الصحافيّين أو شاهدتُ إطلالةً لمتحدّثين تلفزيونيّين. كلمات هؤلاء منفصلة عن عيونهم، أصواتهم في مكان وصدورهم في مكان آخر.

لا أظنّه نوعاً من الفصام غير الواعي، بل هو في الغالب فصامٌ مقصود.
 
تُعجِب هذه البراعة كثيرين من القرّاء والمشاهدين. كيف؟ لأنّهم أبرياء. حتّى صرتُ أجزم عن هذا أو تلك بأنّهما بريئان لمجرّد انخداعهما بهؤلاء البارعين.
هل من المجازفة الادّعاء بأنّ معظم شهود الزور هم من الأقليّات؟ أوصَلَتْهم ظروف الخوف أو الانتهازيّة إلى التلوُّن فامتهنوا لغة الرياء والنفاق. تبدَّل فيهم، مع المراس، اللسان والقلب. حتّى لو ماتوا سنرتاب بحقيقة موتهم.
لغة الكذّابين لا مفرّ فيها من التصعيد: يبدأ الكذّاب بالتأتأة وينتقل إلى رباطة الجأش، ثم يرتقي إلى الفجور بدافع الحاجة إلى تكليس التزوير حتّى لا يبدأ بالتصدّع.
 
في زمن مضى كانت مقاربة الكتابة بحدّ ذاتها قانون إخلاص. كان الإمساك بالقلم يُرجّف العظام تهيُّباً. كانت درجات الصدق تتفاوت طبعاً ولكنّ المبدأ هو الصدق، وإلّا انفضح الكاتبُ فوراً.
اليوم أتقن المنافقون النفاق حتّى تواروا تماماً في أقنعتهم. وصاروا جموعاً لم يعد القارئ والمشاهد يستطيعان التمييز بينهم وبين غيرهم. لم يعد قادة الرأي من المفكّرين والخطباء والأدباء والصحافيّين إنّما من الدكاترة و«الخبراء الاستراتيجيّين» والنواب والوزراء والوزراء السابقين الذين يداوم مقدّمو البرامج التلفزيونيّة على مناداة الواحد منهم بـ«معالي الوزير» حتّى لو لم يعد وزيراً منذ ثلاثين عاماً. انتقلت مهمّة الرأي من طبقة كانت تخجل إلى طبقة تؤمن بأنّ «الثقة بالنفس» سرّ «النجاح».
 
كما أنّ ثمّة تخصّصاً في الهندسة والطبّ، هناك تخصّص في العهر. وبعدما كانت البيوت السريّة محصورة في بعض الصحافة، أصبحت مواخير على بعض الشاشات. المواقع الالكترونيّة أصرح: هنا تنطلق العصبيّات الطائفيّة والمذهبيّة على سجيّتها بلا رياء. عكس الصحف والشاشات حيث يتبارى مزيّفو العملة ويزدهرون. وفي مختلف الميادين: سياسة دين أدب فنّ. تاريخ جغرافيا اقتصاد مال.
 
أعرف لماذا لا أصدّق هذا الكاتب، ذاك المتكلّم. إنْ لم يقل لي وعيي قالت لي غريزتي. ولا أستغرب. مجتمعٌ قائمٌ على الازدواجيّة والمراوغة كيف لا يلد باطنيّين؟ مجتمعٌ يقيم علاقاته الذاتيّة والداخليّة والخارجيّة على قاعدتَي الطائفية والانتفاع كيف لا يحتضن مأجوريه وأبواقه؟
ولئنْ كنتُ لا أصدّق هؤلاء، في المقابل، هذا الآخر، أصدّقه. حالاً بلا جهد. فهو ينضح بما فيه: مَوْتورٌ صادق طائفي صادق أحمق صادق.
… نُقضّيها هكذا: «وفاقي» «علماني» كذّاب ودموي متخلّف صادق.
والحلّ؟ تسألني.
لا حلّ، أجيبك. نحن شعوبٌ حلولها مشاكل.
 
■ رؤيا مخيفة
نقول لمَن نحسبه ظالماً أو مخطئاً: سوف تندم. قلنا لمَن هلّلوا لاستقالة البطريرك صفير: سوف تتأسّفون عليه. ويوم اغتيال رونيه معوّض: لن نستطيع التعويض عنه. ويوم عزوف فؤاد شهاب عن التجديد: سوف تندمون عليه. ويوم اغتيال كمال جنبلاط: ضيعانه. ويوم اغتيال الحريري: ضيعانه. ويوم وفاة نسيب لحّود: ضيعانه. ويوم وفاة جبران تويني ثم والده غسّان: ضيعانهما. ويوم وفاة عبد الناصر: الله يستر. كذلك يوم وفاة ياسر عرفات وجورج حبش وريمون إدّه وموريس الجميّل. وقبلهم رياض الصلح وبشارة الخوري. وسنبقى نادراً ما نتنفّس الصعداء لغياب أحد وغالباً ما نردّد سوف تتأسّفون عليه. سوف نندم. سنترحّم عليه.
هذا ما كنتُ أظنّ.
إلى أنْ قاطعني صديق قائلاً: لا، بعد قليل لن يحصل ذلك، لأنّه لن يبقى هناك مَن يَنْدم!..
 
■ «صانع الألعاب»
هذا كاتب يولد. كاتب قصّة وشاعر. متمرّد ورقيق. وشفّاف مقهور قاهر. تحيّة لأحمد محسن وروايته «صانع الألعاب» (دار نوفل).
أصعب امتحان يجتازه قارئ كاره للرياضة مثلي هو الصفحات الملأى بتفاصيل المباريات. ومع هذا اجتزتُها لأنّها ما كانت إلّا حيلة للتسلّل إلى السيّد حسن نصر الله. نوعٌ جديد من التنفيس، وعن كبتٍ شيعيٍ جديد. كبتٌ فيه من الاحتقان قَدْر ما فيه من الإعجاب. يمدّ أحمد محسن ويجزر بين التوريّات والمجانسات كأنّه يلعب إلكترونيّاً مع أشباح أعصابه.
قد يحسب الكاتب مهارته في الإحاطة بعالم الكرة وجرأته في تناول شخصيّة نصر الله، لكنّ ألمعيّته هي على الأرجح في تعاطيه مع المرأة. اقرأ فصله عن النادلة، «مربّية الوحوش»، التي أغرم بها لأنّها «تلعثمتْ لأجلي».
يُحسن أحمد محسن السرد الجامع بين الرهافة والتفصيل، بين الشاعريّة والشرح. أكثر ما يعلو بالقصّة هو هذه الفضيلة. هذا، مثلاً، ما يميّز قصص عبّاس بيضون ورشيد الضعيف وهدى بركات. وقبلهم توفيق يوسف عوّاد وخليل تقيّ الدين. لكنّ أفضل الأفضل في كتابته، عندما يرخي العنان للأنا، مهما تَموّهَتْ. وسوف يقيم التوازن المرجوّ عندما يوفّق بين تدفّق الغنائيّة ولجم الاسترسال في الشرح، تاركاً للقارئ فسحةَ تَخَيُّلْ.
هوذا كاتب يولد. شراراته منه وفيه. كم سيتقاتل ويتغيّر! على أمل التخفيف من التَمَسْخُر والإكثار من النبش الحميم والصادق: «قرّرنا أن نكتشف النادلة (…) بحثنا عنها في الفايسبوك بعدما سألتها إليانا عن اسمها. حسناً، سأعترف: فكّرنا في طائفتها أوّلاً. نحن الذين يلعنون ذلك ويلعنون الذين يفعلونه، تذرّعنا بالمزاح لكنّ السوسة نخرت عظامنا».
«حسناً، سأعترف». لنبدأ من هنا ولنكمل من هنا. إذا لم تكن الكتابة مَطْهراً فماذا تكون.
 
■ قصيدة النثر
يخطئ الظنّ مَن يعتقد أنّ شعر النثر قطع كلّ صلةٍ بالوزن والقافية. لقد قطع الصلة الظاهرة فقط. الإيقاع الموسيقي المنظوم حاولنا إبداله بإيقاع منثور، والقافية استعاض عنها شعر النثر بالصدمة _ الدهشة _ المفاجأة.
لا غنىً عن الإيقاع. إذا أخفقت في النهاية تجربة قصيدة النثر _ إذا لم تكتسب أنغامها ومقاماتها الموسيقيّة، إذا لم تصبح، مهما غالت في التنوّع وتمادت في الابتكار وتَعدُّد النبرات، جوقة أصوات غنائيّة، وأوركسترا كلمات ووحدات جُمَليّة ومناخات تحاكي سحر أوركسترا الوتريّات والنفخيّات والبيانوهات، فلماذا المواصلة بها؟ تحرَّرنا من القوالب القديمة لأنّنا أردنا جماليّة أوسع أفقاً ومدى، وغنائيّة تحتضن منحنياتنا كما تعانق مرتفعاتنا، ولغة تنقل ذاتها بقدر ما تنقل ذاتنا، وإدهاشاً صادراً من الحياة الحديثة واصطراعها فينا بين حاضرٍ وحشيّ وماضٍ رؤوف.
إذا لم تتحقّق القصيدة النثريّة الحديثة عبر اعتصار أفضل ما في الماضي وأنبض ما في الحاضر العابر وما قد يتيسّر للحدس والخيال والحلم أن تستشفّه من الغامض والمجهول، وإذا لم تشحن كلّ هذا بإيقاعيّة نابعة من روح الشعر والشعر نابع من روحها، وإذا لم تُشبِع ما يحتاجه الآخر من الشعر، فلماذا مواصلة كتابتها؟
 
■ أغنية بلا تلحين
من قصيدة هجائيّة لعاصي الرحباني رداً على هجائيّة لجورج جرداق في مجلة «الشبكة» 1971، وكان سجالاً ودّيّاً استغرق أسابيع:
«لَمْلِمْ جراحكَ فالجراحُ أغاني
يا قلبُ واسبقني إلى النسيانِ
(…) يا قلب واسبقني إلى وادي الهوى
فأنا وأنت هناك منزرعانِ
(…) أضناكَ أتعبكَ المسيرُ ولم تزَلْ
سُكناكَ أشرعةً لغير مواني
ما بالنا صرنا كليلٍ عابرٍ
كغمامةٍ مجهولةِ الأوطانِ
فتعالَ نسكن في الكآبةِ كلّنا
ونصيرَ زهر الشوكِ والأحزانِ».
 
عابـــــــرات
 
نسمع الموسيقى فنتحرّر من القيود، والموسيقى أسيرة قيودها.
 
 
نتألّف ممّا نفرضه على أنفسنا وممّا نرفضه. إنّهما أقوى ممّا نقول له «نعم»، لكنّهما ليسا أجمل.
نفرضه _ نرفضه: كلمتان تتشكّلان من الحروف ذاتها.
صدفة لا تلعبها علينا اللغة بل الحدس.
 
 
ربّما دون أن ندري، أوّل ما نفعله حين تستوقفنا امرأة هو امتحانٌ متناقض ولاشعوريّ: نمتحن فيها مناعتها وتجاوبها في لحظة واحدة. نريدهما معاً.
نريدها صعبة وسهلة: مناعةٌ تُجدّدُ التحدّي وسهولةٌ تشجّع المعاودة.
 
 
نكتب عمّا نفعل، عمّا نحلم ونريد أن نفعل. لمَ لا نكتب عمّا لا نفعل؟
 
 
الاعتراف هو الحقيقة. الحقيقة اعتراف. كلّ «حقيقة» خارج الاعتراف خطاب مفبرك واعتباطي.

    

 

a_4x-horizontal

أنسي الحاج- عن انثروبولوجيا المدن و الأخلاق والعولمة والروح

 

 

يعدّد الفارابي أربعةَ أنواعٍ من المدن (أو المجتمعات) الفاسدة: المدينة الجاهلة، المدينة الفاسقة، المدينة المُبَدِّلة (أي التي انطلقت من مبادئ صحيحة ثم تنكّرت لها) والمدينة الضالّة. خلاصة القول إن الزَيَف والكذب وتكديس المال والتسلُّط والقهر والفوضى والخداع والاحتيال والنذالة هي القواسم المشتركة بين هذه المدن.
ما يسمّيه الفارابي مدناً فاسدة كانت فاسدة في نظر مثاليّي عصره، أي القرن العاشر، وما قبله عصور سقراط وأفلاطون وأرسطو وبودا والمسيح، وقد باتت في ما بعد قبلةَ الشعوب ومرمى آمالها. (كان الفارابي مجايلاً للمتنبّي، وكلاهما عاشا حقبة في حلب، وكانا مقرّبين من سيف الدولة الحمداني. واللافت أن سيف الدولة كان يتبرّم من صلف المتنبّي وكبريائه، كذلك كان، رغم إعجابه بفكر الفارابي، يتضايق من غرابة مَلْبسه وبوهيميّة سلوكه، ممّا أسخطه عليه فأبعده عنه). هل هناك نوعٌ من التطهُّر عن طريق الفساد؟ ذكرنا في البداية الراهب الروسي الخليع الرائي الشافي العجيب راسبوتين. وله أقرانٌ في تاريخ المسيحيّة، غربيّة وشرقيّة. لكنّ فساد راسبوتين كان فساد شخص لا مدينة، وحظوته لدى القيصرة كانت حظوة شخصٍ لا شعب.
للجواب، نأخذ مدناً حديثة كنيويورك وطوكيو ولندن وباريس… هل نستطيع أن نقتطع لكلّ منها نعتاً واحداً؟ ماذا كان الفارابي سيسمّي هذه المدن؟ لا حاجة للتفكير كي نلقى الجواب: لقد أوجد الغرب (لنعتبر اليابان الجديدة جزءاً منه) المعادلة التي تريحه وتقيم التوازن بين مبادئ ثوراته، وأهمّها الثورة الفرنسية 1789، وبين رفاهيّة العيش. بين حقوق الإنسان المعنويّة والأخلاقيّة وحقوقه الاجتماعيّة. بين القانون والتمتُّع بالعيش. بين الدولة والفرد.
ماديّة على خلفيّة القانون، وحريّات مقدّسة على خلفيّة الدولة أُمّ الجميع.
المفهوم الدينيّ لم يعد أساساً في شريعة المدن الحديثة.
هذا هو جوهر العَلْمنة.
لا خطيئة في ظلّ العلمنة لأنّ لا أسطورة معها، لا ثواب ولا عقاب إلّا بميزان العمل والجهد. المجتمع هو عشرات بل مئات بل ألوف المجتمعات في المجتمع الواحد، الحريّة حقّ طبيعيّ بديهيّ لكلّ واحد والقانون هو المَرْجع.
لا حاجة للتطهُّر في المدن الحديثة. وهذا هو أخطر شعور يمكن أن يتملّك إنسان هذه المدن. انتفاءُ الشعور بالحاجة إلى نورٍ يغمرنا، إلى الصعود درجة أبعد في سلّم الروح، هو ضرب من انسداد الشرايين. الإشباع الاجتماعي والمدني ليس نهاية. هو إحدى الغايات ومكافأة صغيرة على معاناةِ عصورٍ من الظلم. مكافأةٌ لا تسقي عطشاً قد يرتدي أحياناً قناع النسبيّ، لكنه عطشٌ إلى مُطْلَق. ونظنّ، بالعكس، كلّما تقدّم الإنسان على طرق الرفاهيّة والتمتُّع بالحقوق وابتكار حقوق جديدة والسعي إليها وتحقيقها، تزايدت حاجته إلى البُعْد الظلالي، إلى ما وراء أعضائه، إلى خلاصٍ من المحدود والمنتهي والمُكرّر والمُعاد، إلى ما يُشعره بالتحليق، باختزال الأبد، باحتطاب الشجر المسحور.
إلى عدم الموت، بالإضافة إلى الموت، جفافاً روحيّاً. يكفيه تهرّؤ أعضائه وتحلُّل بدنه. لا يريد سعادة حياة ريّانة بالقانون وميتة بالتطلُّع والشوق.
رغم القفزات الهائلة اجتماعيّاً وتمدُّنيّاً وحضاريّاً، لا يزال الإنسان رهين الصحراء. بل أصبح أوثق ارتهاناً لها. كيف ينجو؟ هل من خلاص؟
 
أنسي الحاج-المدينة
© 2013 www.ashrafkanjo.com