أدونيس

مجموعة من كتابات وأشعار المفكر أدونيس

أدونيس -مدارات – أنظمةٌ لم تمُت،ثوراتٌ تولد…

عن الحياة

الخميس ٢٨ فبراير ٢٠١٣
 
ـ 1 ـ
«الخراب»: تلك هي الكلمة الأكثر قدرةً على وصف الحالة الراهنة في العالم العربي. غير أنّه ليس «الخراب الجميل» الذي تمنّيتُه في قصيدة «مقدمة لتاريخ ملوك الطوائف» في سنة 1971. ذلك أنّ هذا الخراب لا يؤسّس لتحرير الإنسان من مختلف العبوديّات، وإنّما يغامر، على العكس، بالتأسيس لعبوديّاتٍ أخرى أشدّ هولاً.
إنّه خرابٌ يعلِّم الإنسانَ قتلَ الإنسان: قتله مباشرةً، أو بالتخطيط، أو بالشورى، أو بالديموقراطيّة، أو بالثورة، أو بالنظام.
ومن أجل تغطية هذا القتل بحرير الإيمان والطمأنينة، يتمّ تسييس الدين وتديينُ السياسة على نحوٍ قد لا نجد له مثيلاً في التاريخ كلِّه، يمحو إنسانيّة الإنسان محوِّلاً إيّاه إلى مجرّد آلة.
إنها ديكارتيّة جديدة، وكوجيتو جديد:
«هل أنا مؤمن؟ إذاً، يجب أن أبيد من يخالفني ومن لا يحالفني، وأن أستأصل كلّ ما يمتّ إليه بأيّة صلة».
 
ـ 2 ـ
الشخص الذي يصدر في أفكاره وأعماله عن مثل هذا الاعتقاد، لا يعود هو نفسه إنساناً، كمثل البشر الآخرين العاديين. يصبح هو نفسه، داخلَ نفسه، «صنماً» أو «وثناً» يتعبّد أهواءه، ونوازعَه. يصبح هو نفسُه المشرِّع، ويصبح غايةَ نفسه. وليست شهوةُ المال والتملّك هي وحدها التي تولّد هذا التصنيمَ أو هذا التوثينَ. وليست فكرةُ الغلبة أو الانتصار على العدوّ هي وحدها التي تكمن وراء ذلك.
يكمنُ وراءَ ذلك نَهَمٌ يتجاوز الطبيعة. نَهَمٌ ممّا وراءها، يجعل صاحبَه غيرَ قادرٍ على الاكتفاء بالتهام الأشياء المادّيّة التي لا روحَ فيها، وقذفها في أتون نَهَمٍ آخر: التهام «الروح»، التهامُ الإنسانِ نفسِه ـ بوصفه طبيعةً تكتنز «قوّةً» ممّا وراءَ الطبيعة.
 
ـ 3 ـ
يذكّرنا هذا الوضع بالإنسان البدائيّ آكلِ الإنسان ـ نظيرِه وشبيهه. كان يعتقد أنّه إذا أكل «قلبَ» عدوِّه مثلاً، يغيّبه إلى الأبد، انتقاماً وتشفّياً، أو يمتلك ما فيه من خصائص البطولة.
نقتل للقتل. أيّاً كان المقتول، طفلاً أو شيخاً بريئاً أو لا مبالياً. لا فرق. المهمّ هو القتلُ في ذاته لذاته. «السيّارة المفخّخة؟» في شارع، أو في مسجد، أو في عرسٍ، «أسطورةٌ» من الأساطير التي تُكتَب باسم الثورة. من يحزم نفسه بالعبوة الناسفة لكي ينسف الآخرين «أسطورةٌ» أخرى. هكذا يُخلَق مخيالٌ جديدٌ للفظاعات، وطرق «إبداعيّةٌ» جديدةٌ في القتْل والتدمير. وفي النتيجة قلب القيم الدينية والإنسانية رأساً على عقب.
وتلك هي حياتنا اليوميّة ـ ثقافيّاً وإعلاميّاً: أليست ميادينَ حيّة لافتراس بعضنا بعضاً، أفراداً وجماعات، افتراءً، وأباطيلَ، واتّهاماتٍ، وتشنيعاتٍ، تشهد على الدّناءة والانحطاط، واللاإنسانيّة عند أولئك الذين «يفبركونها» وعند أولئك الذين يروّجون لها.
 
ـ 4 ـ
الإنسان الذي يَصدُر في أفكاره وأعماله عن مثل هذا الاعتقاد، يحوّل العالمَ إلى مرآة: ينظر فيها، لا يرى إلا وجهه، وإلاّ نفسه. لا يرى إلا من يشاركونه إيمانه، وأفكاره وأعماله. يصبح هو نفسه، في نظر نفسه، ممثِّلاً «شرعيّاً وحيداً» لا للشعب وحده، وإنما أيضاً للدين وللثورة (أو للنظام، في الوجه الآخر من الميداليّة). وإذاً تصبح مشروعةً إبادة كلّ ما لا يقف إلى جانبه، وكلّ من لا يسانده.
والمفارقة أنّ هذه الحالة تُوهِم صاحبها بأنه هو الموجودُ الوحيد. في حين أنّه، وجوديّاً، عاجزٌ وقاصر. ذلك أنه يتحرّك بقوّةِ آخر وراءه. وأنّه، عمليّاً، ليس إلا دمية. إنه قاتلٌ لكنّه، في الوقت نفسه، منعدم الوجود في ذاته. وجودُه قائمٌ بالآخر، مادّيّاً وثقافيّاً. «الآخر» هو الذي يصنع «الثورة» و «النظام» معاً. حين يغيب هذا الآخر، يغيب هو، ويتبخّر، كأنّه لم يكن. حياتُه قائمةٌ بغيره، لأنها قائمةٌ على شهوة المُلْك، والسلطة. إنه تحديداً، عاجزٌ عن الوجود في ذاته: الارتباط بالآخر الأجنبيّ حجابٌ على الوجود الذاتي والوطنيّ.
 
ـ 5 ـ
يحتاج هذا كلّه إلى السيطرة على الكلام. إلى احتلال الفضاء الرمزي، لغويّاً، فضاء الوسط الإنسانيّ. وهو احتلالٌ «يحرّر»، ويا للمفارقة، ما كان مكبوتاً، أو سجيناً: لا الكراهية، لا الضغينة، لا الإلغاء والإقصاء، وحدها. بل كذلك ما يفصح عنها: المذهبيّات الدينيّة والإتنيّة، إضافةً إلى تهم الكفر والزندقة والخيانة والعمالة وغيرها.
وفي هذا «الاحتلال»، يغذّي الفرد شعوره بكينونته السياسيّة والاجتماعيّة، والتاريخيّة. وبقدر ما تتمّ السيطرة على الكلام، وتتّسع حدودها، يتاح للإنسان أن يفتح شقوقاً في التناغم القائم على السطح. ويتأكّد لكلّ ذي بصيرة أنّ الواقعَ ليس أبداً القول الشائع عنه: الواقع محجّب. الواقع كَذِبٌ.
 
ـ 6 ـ
رفض النظام للثورة، رفض الثورة للنّظام، في «المجتمعات العربيّة» ـ متلازمان عضويّاً مع نزعة الثّأر. لا يعود أيٌّ من الأطراف يعرف إلاّ شيئاً واحداً: ضرورة الهدم، هدم المنظومة التي تحاربه، أو تسجنه، والقضاء عليها، بأيّة طريقة، ومهما كان الثمن. يوضع هذا الهدم في المرتبة الأولى من الاهتمام. وكلّ طرفٍ يلقي المسؤوليّة على الآخر. وبدلاً من أن يكون متّهَماً، يتحوّل إلى متّهِم. كلُّ طرفٍ «ثورةٌ» تناقض الثّورة، أو «نظامٌ» يناقض النّظام. لا تعني له مصالح الناس، أو القيم والأخلاق أيّ شيء. وفي ذلك يُنشئ هو نفسُه ديكتاتوريّة تقابل تلك التي يحاربها، محاولاً التحرُّر منها. ديكتاتورية الإلغاء الكامل والتفرّد المطلق واحتكار الحق في الكلام والقرار.
«الثورة» في مثل هذا المناخ «الثقافيّ» كمثل «النظام»، لا تكون إلاّ استبداداً آخر. وهو ما درجنا عليه في تاريخنا كلّه: لا نستأصل الداء بدوائه، وإنما نغيّره بداءٍ آخر.
 
ـ 7 ـ
مسرحٌ هي الحياة العربية، اليوم: «مسرحُ قَسْوةٍ» ورعبٍ في آن. بينهما فرَحٌ خفيفٌ وعابرٌ؛ فرحُ الأمل بالتغيّر. أمّا القسوة، فلأنّ البطولة على هذا المسرح تتمثّل في القَتْل والهدْم. وأمّا الرّعب فلأنّ طرق القتل والهَدْم لا تميّز بين حدود «الثورة» وحدود «الجريمة»، ولأنّ الخطابَ الذي يرافق العملَ يتأصّل في مرجعيّةٍ هي نفسها المشكلة، سواءٌ كانت «قوميّة»، أو «دينيّة»: الأولى إقصائيّة حتى الاستبداديّة والاحتكاريّة، والثانية إقصائيّة، أيضاً، حتى التكفير والنّبذ.
قراءة حزب «البعث العربي» للواقع العربيّ، وبخاصّةٍ في العراق وسورية، قراءةٌ شبه دينيّة، تراثيّاً. وقد هَيْمنت حوالى نصف قرن. وقراءة المتديّنين لهذا الواقع، شبه بعثيّة، إيديولوجيّاً. الموجِّه المهيمِن يتمثّل في البنية العقلية الماضويّة، وهي في جوهرها، ذات طبيعة دينيّة.
الماضويّة هنا وهناك، في الحالين، أساس التفكير والعمل. والصراع الدائر اليوم هو في عمقه صراعٌ على السلطة، على تغيير السلطة، وليس على تغيير هذه العقليّة، أي على تغيير المجتمع ذاته ـ ثقافةً ومؤسّسات. لا النظام العربيّ القائم نظام مواطَنة، نظام مساواةٍ وعدالةٍ وحريّة، ولا الثورة عليه ثورةُ مواطَنَةٍ ومساواةٍ وعدالةٍ وحرّيّة، لأنها ثورةٌ تتكلّم، عمقيّاً، بلغة النّظام.
الثورة أفُقٌ آخر، لا يزالُ مغلَقاً أمام العرب. والعصر الذي نعيش فيه هو عصرُ ما مضى. ويبدو أنّ ثقافة هذا الماضي، ثقافتنا السائدة في بيوتنا وحياتنا اليوميّة، في مدارسنا وجامعاتنا، وفي مؤسّساتنا تعلّمنا أنّنا قومٌ لا نفكّر، بل «يُفَكَّرُ» عنّا، ولا نتحرّك بل «نُحَرَّك»، ولا نبني، بل «نُبنى».
بلى، الثورة أفقٌ آخر لا يزال مغلقاً أمام العرب. هل يفتحه ما يحدث الآن في تونس؟ هل يفتحه ما يحدث الآن في مصر؟ هل يفتحه ما يحدث الآن في اليمن وفي البحرين؟
وفي هذا المضمار، كان يمكن أن تكون سورية سبّاقة: أن تكون نموذجاً فريداً، ورائدة عظيمة.
 
 
 
أدونيس

كلمة أدونيس في جنيف- المؤتمر الدولي السوري

 

 أيتها الصديقات، أيها الأصدقاء نجتمع من أجل ” سورية ديمقراطيّة “، ومن أجل ” دولة مدنيّة ” فيها، وفقاً لموضوع هذا المؤتمر. السؤال المباشر الذي يفرض نفسه، في هذا الصّدد، هو: هل نؤمن جميعاً أنّ الوسيلة جزء لا يتجزّأ من الغاية؟ إذا كان الجواب بالإيجاب، وهو ما أفترضه شخصيّاً، فإنّ علينا، أن نعترف بأنّ الوسائل العنفيّة المسلّحة القائمة، اليوم، إنّما هي وسائل تتناقض كلّيّاً وجوهريّاً مع هذه الغاية. إنّها بالأحرى، قضاءٌ على الديمقراطيّة والمدنيّة، عدا أنها لا تقيم أيّ وزن لحياة الإنسان ولحقوقه وحرّياته، إضافةً إلى أنها تحتقر تاريخه ومنجزاته العمرانيّة والحضاريّة. والحقّ أننا عندما ننظر إلى ما يحدث الآن في سورية، مربوطاً برمزيّتها التاريخيّة، على المستويين الحضاري والكونيّ، ندرك مباشرةً كيف أنّ الصراع فيها تحوّل إلى صراعٍ إقليميّ ودوليّ في آن، وكأنّ مقصد الجميع يتخطّى تهديم النّظام إلى تهديم سوريّة.

 
فسورية، بلد الحضارة والتعدّد، هي مفترقٌ وملتقى. من الأبجدية التي ابتكرتها وغيّرت وجهَ الإبداع الحضاريّ، إلى سلسلة طويلة من المراكز والمنجزات الحضاريّة ، إلى الدولة العربية الأولى في دمشق التي أنشأها معاوية وحملت البذور الأولى للثقافة المدنيّة وكانت النواة الأولى للفصل بين الدين والدولة، أو لإعطاء ” ما لقيصر لقيصر وما للّه للّه “، إلى الأندلس التي أسّست لكونيّة الثقافة وإنسانيّتها، إلى انتصار الشاطىء المتوسّطي الشرقيّ على الشاطىء الغربيّ، انتصاراً عسكريّاً بقيادة صلاح الدين الأيوبيّ، ـ أقول في هذا كلّه، كانت سورية ولا تزال تمثّل التجمّع البشريّ الأكثر قِدَماً وغنى وتنوّعاً وانفتاحاً بين بلدان العالم. ففيها التَقَت ولا تزال تلتقي أديان وسلالات قديمة ، وتتعايش مع بعضها بعضاً. ولا يضاهي سورية في صَوْن الجماعات المتباينة، دينيّاً على الأخصّ، وفي استقبال الهجرات الجماعية للمضطهدين وتوطينهم، أيّ بلدٍ في العالم. ولهذا كانت في جغرافية العالم المشرقيّ المتوسّطيّ، العقدة الأكثر استعصاءً في استراتيجيات العالم الحديث، سياسةً وثقافةً واقتصاداً.
 
هكذا يبدأ العمل من أجل ” سورية ديمقراطيّة ” ومن أجل دولة مدنيّة فيها بأن نرفض قطعيّاً تحويل سورية، بحجّة تغيير النظام، إلى ساحةٍ لمباريات القوى الأجنبية الاستعماريّة في تدخّلها باسم الدفاع عن الديمقراطيّة وحقوق الإنسان، علماً أنّ ثمّة بلداناً كثيرة، عربيّة وغير عربية، أَوْلى بهذا الدفاع. هذا من جهة. ويجب أن نرفض، من جهةٍ ثانية، تحويل سورية، باسم هذا التغيير أيضاً، إلى ميدان للجهاد الدينيّ تشارك فيه جميع المعسكرات الأصوليّة الإسلاموية في العالم. كأنّ سورية بلادُ كفرٍ يجب أن تُغزى وأن تُفتتح. وهذا عنفٌ عابرٌ للقارات يُغرق البلاد في ظلاميّة القرون الوسطى، ويعمّق جذوراً لا إنسانيّة في تاريخنا، ثقافيّة واجتماعيّة وسياسيّة، خصوصاً في ما يتعلّق بالآخر المختلف؛ ولا معنى لأيّ تغيير أو لأيّة ثورة في سورية إذا لم يكن اقتلاع هذه الجذور هدفاً أوّل. والمسألة العميقة، إذاً، في سورية لا تنحصر في مجرد تغيير النظام أو السلطة. فالديكتاتورية ليست مجرّد بنيةٍ سياسيّة. إنها أساسيّاً بنيةٌ ثقافيّة ـ اجتماعيّة. إنها في الرأس، قبل أن تكون في الكرسيّ.
 
لا بدّ إذاً في الثورة، إن كانت حقيقية، من أن يقترن مشروع تغيير السلطة أو النظام السياسيّ اقتراناً عضويّاً بمشروع آخر هو تغيير المجتمع سياسيّاً وإداريّاً، ثقافيّاً واجتماعيّاً. وفي أساس هذا التغيير الذي يرتكز جوهريّاً على وحدة الأرض السورية، المساواة الكاملة بين جميع السوريين، في معزل عن الجنس والدين والمنشأ الاجتماعيّ أو الإتنيّ السلالي. ومعنى ذلك التأسيس علمانيّاً، للديمقراطيّة، ولمدَنيّة الحياة والدولة والمجتمع، إرساءً للتعدّديّة وتوطيداً لحقوق الإنسان وحرّيّاته، وفي مقدّمتها تحرير المرأة من القيود التي تكبّلها، فتعيد لها حضورها الإنسانيّ الكامل. ولا تعود مجرّد آلة للحرث والإنجاب، وتؤكّد أنّ الثورة في معناها العميق ليست ذكوريّة، وإنّما هي إنسانيّة، ثورة المرأة والرجل معاً، كأنّهما عقلٌ واحد وجسمٌ واحد. وهذا ما يتيح لسورية الحديثة، أن ترتبط بمنجزات الإنسان الحديث، في ميادين الفكر والعلم والتقنية، وأن تتأصّل في الوقت نفسه، في تاريخ حضاريّ عريق. إذ ما تكون، مثلاً، جدوى ثورة في سورية أو في غيرها من البلدان العربية لا تؤسّس لولادة الفرد الحرّ المستقلّ، سيّد نفسه، وحياته، ومصيره؟ وما جدوى ثورة يحكمها تأويلٌ خاصّ وسياسيّ للنصّ الدينيّ، في معزل كامل عن الواقع، وعن الطبيعة، وعن الحياة، عن الثقافة، وعن الإنسان نفسه؟ وما جدوى ثورةٍ تتكلّم بلغة غير إنسانيّة، لغة “الأكثريّة” و “الأقلّية” ـ ولا تلتفت إلى أنّ المجتمع يقوم على المواطنيّة الواحدة، لا أكثريّة ولا أقلّيّة، بالمعنى العرقي أو الدينيّ أو اللغوي، بل حصراً بالمعنى الديمقراطي المدنيّ ، الذي يقوم على الرأي الحرّ، الفرديّ، ويتجلّى في صناديق الاقتراع. وما معنى ثورة لا تؤمن بحق الإنسان في أن يكون معتقده الدينيّ شخصيّاً لا يُلزم أحداً غيره ولا يخضع لمحاسبة أحد إلاّ الخالق، وأن يعتقد ما يشاء في الطبيعة وفي ما وراءها، في الثقافة والحياة والموت وغيرها، وأن يُفصح عن هذا الاعتقاد بحريّة كاملة؟ وما جدوى ثورة لا يصل سقفها الثقافيّ الإنسانيّ إلى أعلى من التسامح؟ ذلك أنّ في التسامح نوعاً من العنصريّة. أتسامح معك، لأنّ الحقّ معي، ولأنّ الحقيقة هي ما أومن به، لكن أتفضّل عليك، وأتيح لك أن تقول رأيك ضمن حدود معيّنة. الإنسان لا يريد التسامح. الإنسان يريد المساواة.
 
المقدّمة الأولى للعمل من أجل هذا كلّه، أيتها الصديقات، أيها الأصدقاء، هي الفصل الكامل بين ما هو دينيّ، من جهة، وما هو سياسيّ ثقافيّ اجتماعيّ من جهة ثانية. هذه ألفباء كلّ ثورة حقيقية.وفي أساس ذلك، الخروج من جحيم النظام العسكريّ المستمرّ والمتصاعد، بصيغ مختلفة، منذ 1949، والخروج، تبعاً لذلك، من الجحيم الأخرى: جحيم العسكرة وإباحة الساحة لكلّ مغامر، والاقتتال المسلّح، والنظرة الواحديّة الشموليّة. هكذا، لا بدّ من أن يكون التغيير في الأسس. دون ذلك، لا ديمقراطيّة ولا مدنيّة، لا مواطنيّة ولا تعدّديّة، لا حقوق ولا حرّيّات.ودون ذلك لا يكون التغيير إلاّ انتقالاً من عبوديّة إلى أخرى. تحيّة عالية إلى الذين هيّأوا هذا اللقاء، وإلى جميع المشاركين فيه. شكراً
أدونيس -مؤتمر جنيف

أدونيس – كلاّ لن تدخل بيتي

 

مدارات 
جريدة الحياة
أدونيس
الخميس ١٧ يناير ٢٠١٣
 
ـ 1 ـ
تتزايد هيمنةُ العنف على الحياة العربية، سياسةً وثقافةً واجتماعاً. لا أريد أن أسأل: أين الأموات في هذا العنف، وماذا فعلوا؟ أسأل: أين الأحياء، وماذا يفعلون؟
عنفٌ – متاهةٌ لا تولّد غير المزيد من المتاهات، في واقع يزيد الإنسانَ اختناقاً، كلّما ازداد غوصاً فيه.
تحركاتٌ، أعمالٌ، أقوالٌ تنحرف بالإنسان عن إنسانيّته، وتشوّه طبيعته.
عنفُ النهار يجرفه عنف الليل. عنف الأمس «غذاءٌ مقوٍّ» لصحّة العنف غداً. تاريخ دمٍ وأشلاء. تنطمس دروب الضوء وتضطرب المنارات. للأحداث قوّةٌ بطّاشة، لكنّ الرهبة خفيفة، والعبرة أكثر خفّةً. تُصابُ الأشياءُ نفسُها بالغثيان، فيما يقهقه البشر ابتهاجاً، ويصفّقون ويرقصون. للشراسة في هذا كلّه عنادٌ حقودٌ محيّر. حقّاً هناك شيء عصيٌّ على الفهم في هذا الجدل الهذيانيّ المتواصل في تاريخنا، جدل الجريمة – الضحيّة، القاتل – القتيل. ويخيّل لمن يحبّ أن يسافر إلى أبعد في التخيّل والواقع معاً، أنّ العربيّ «يُقتَل» في أوروبا وأميركا وإسرائيل ويُدفن ما تبقّى من أشلائه في أحضان العروبة.
كلاّ ليست هذه فوضى خلاّقة. إنها بالأحرى تفتّت وانهيار.
 
ـ 2 ـ
بأية لغةٍ كتبتَ كتابَك، وهو لا يلقي أيّ حجرٍ في أيّ ماء آسن؟ ولماذا كتبتَه؟
 
ـ 3 ـ
نحتاج أحياناً إلى المرض – هذا الموت الموقّت، لكي يشغلنا بتفاهاته عن موتنا اليوميّ الرهيب الدائم.
 
ـ 4 ـ
أوه… هذا اليوم، رجوت المللَ أن يجثمَ على ركبتيّ، بثقله كلّه، وألاّ يفارقني.
 
ـ 5 ـ
لا نعرف الرؤيةَ الوحدانيّة حقّاً، إذا لم نعرف عُنفَها الخفيّ.
 
ـ 6 ـ
لا يمكن فهم الجسد، إذا نُظر إليه، تجريديّاً، في ضوء الروح. التجريد تعويقٌ ذاتيٌّ للعقل، واغتيالٌ للأشياء.
 
ـ 7 ـ
الخاملون البلداء لا يرضيهم أيّ شيء حتّى وإن كان خارقاً.
 
ـ 8 ـ
أن تكون مواطناً عربيّاً له حقوقه وحرّياته الكاملة، أمرٌ مستحيل في أيّ بلد عربيّ، اليوم. السّبب أنّ النظام السياسيّ – الاجتماعيّ السائد بتركيبه القبليّ – التيوقراطيّ، وشكله الديموقراطيّ الأجوف، لا يتيح الاعتراف بالآخر المختلف، وبحريّاته الفكرية والمعتقدية والجسدية.
ماذا تعني، إذاً، في اللغة العربية كلمة «وطن»؟ أو كلمة «مواطَنة»؟
 
ـ 9 ـ
كان التناقض بين الديموقراطيّة والتوتاليتارية بدَهيّاً، نظراً وعملاً. اليوم، يكاد أن يصبح مجرّد شعار أجوف. فكثير من الممارسات الســــياسيّة الــغربية التي تتمّ باســـم الديموقراطــية، الآن، تبدو كأنــها أشكالٌ من الانحـــياز والتعــسّف، ضدّ حقوق الإنسان وحريّاته، وضدّ مبادئ العدالة والمساواة.
 
ـ 10 ـ
تكاد الحريّة، اليوم، في العالم كلّه، أن تكون انتحالاً، ويكاد الصدقُ أن يكون انتحاراً.
 
ـ 11 ـ
مجرّد فراغ في مهبّ المصادفات: هذا هو شأن كثيرٍ من البلدان في العالم، اليوم. لا يقدر أيٌّ منها أن يحتوي نفسه. ينفجر، وتنفجر معه تناقضاته. يتسلّح كلّ فريق بما لديه وبما يستجديه، أو يُغدَقُ عليه. بالمذاهب والطوائف، بالقتل والنهب، بالعنف في أشدّ أشكاله وحشيّةً. وهذا كلّه يتمّ باسم «الثورة» أو غيرها من الشعارات الضخمة كالحرية والوطن والديمقراطية.
 
ـ 12 ـ
السماء ريفيّة في الريف، ومدنيّة في المدينة.
ـ 13 ـ
لا أنتظر أجوبة عن الأسئلة التي أطرحها على الوجود وعلى نفسي. هذا يجعلني أزداد يقيناً أنّ الإنسان هو نفسه جزء عضويٌّ من سرّ الكون، ومن اللانهاية.
 
ـ 14 ـ
أحتاج في لحظة الفرح إلى من يكون إلى جانبي ويساعدني في احتضانها: أحتاج إلى الحزن.
ـ 15 ـ
بلى، نعيش في عالم لا يستحقّ أن نغضب منه، وإن استحقّ أن نغضب من أجله.
 
ـ 16 ـ
يتأصّل عملي الكتابيّ في نوع عميق من الغمّ والملل، لا أعرف كيف أفسّره. لولا ذلك، لكنت على الأرجح توقفت عن هذا العمل، منذ زمن طويل.
 
ـ 17ـ
أن يوقن الإنسان يقيناً مطلقاً بأمرٍ ما، حدَثٌ لا يصحّ إلا في مجال المعرفة العلمية البرهانيّة.
غير أنّ هذا، بالنسبة إلينا نحن العرب، مسألةٌ عاديّةٌ جدّاً. فنحن نولد في ثقافة هذا اليقين، ونعيش فيها، ونحارب دفاعاً عنها، ونموت من أجل أن تظلّ حيّة.
 
ـ 18 ـ
عندما ننظر إلى ما يحدث في معظم البلدان العربية يبدو لنا أنّ البشر فيها، أيّاً كانت اتّجاهاتهم، لا همّ لهم إلا أن يستيقظوا، ويغتسلوا، ويأكلوا، ويذهبوا إلى عملهم اليوميّ: القتل أو الموت.
ـ 19 ـ
هناك مراتب في الحريّة تتطابق مع مراتب الوعي:
هناك حريات لا ينتج عنها إلاّ الشناعات والأهوال،
وهناك حريّاتٌ تصعد إلى زيارة الكواكب.
 
ـ 20 ـ
حين يكون الجمع ضدّك، فهذا يعني غالباً أنّ الحقّ معك، أو أنّك، على الأقلّ، أقرب إلى الحقيقة من الجمع.
 
ـ 21 ـ
إبادة الآخر، خصوصاً ذلك الذي يُعدّ عائقاً، هدفٌ أوّل لكلّ أصوليّ (دينيّ أو غير دينيّ) يناضل من أجل السلطة.
 
ـ 22 ـ
أمضى حياته باحثاً عن الحقيقة الضائعة.
اليوم، وهو يقترب من الموت، يبدو له أنه هو الذي كان ضائعاً.
 
ـ 23 ـ
القضايا الناجحة؟
لا أحبّ، أحياناً، أن أضمّ صوتي إلى الأصوات التي تهتف لها، لأنّ نجاحها يكون موضع تساؤل: ما وراءه؟ ما معناه؟ ما غايته؟
 
ـ 24 ـ
كان هزيود الشاعر يقول: «أخْفَت الآلهة عن البشر ينابيعَ الحياة».
أسألك، اليوم، هزيود:
«هل تعرف من يخفي عنّا نحن العرب هذه الينابيع؟ هل تجرؤ أن تسمّيه؟».
 
ـ 25 ـ
«الثورة» في الممارسة العربيّة: ذئبٌ وحمَلٌ في جسمٍ واحد.
و «النظام» في الممارسة العربية: سجنٌ حتّى في الهواء الطّلْق.
 
ـ 26 ـ
للزمن في هذا المكان رائحةٌ كريهة.
غريزةُ الفَتْك هي فيه الآمرة النّاهية.
 
ـ 27 ـ
دائماً أقرع بابَ اليأس، ودائماً يطردني، صارخاً في وجهي:
«لن تدخل بيتي».
لكن، لماذا أشعر أنّني لن أشفى منه؟
 
ـ 28 ـ
إن صحّ ما يقوله شاعرٌ عربيٌّ قديم: «وشرُّ البليّة ما يُضحِك»، فإنّ البليّة الأكثر إضحاكاً اليوم هي:
تركيّا «العثمانيّة»، تقود العرب من جديد!
 
ـ 29 ـ
كان تاسيت المؤرخ المشهور يقول: «التاريخ قذر».
هل هذه الصفة، اليوم، كافية؟
 
أدونيس
© 2013 www.ashrafkanjo.com