أنسي الحاج- لا مفاجأة في لبنان

أنسي الحاج

جريدة الأخبار اللبنانية
السبت ٩ شباط ٢٠١٣

 

 

لم يعد هناك مفاجأة في ما يُحَضَّر للبنان. كلّه صار وراءنا. بالكاد تغيّرت وجوه. الباقي صامد في مخالبه ونواياه. والوكلاء والمنفّذون جاهزون. بالكاد هناك شخص شخصان يعذّبهما التردّد، يتوجّسان من الغَطْس. الباقون محسومة لديهم. لم يعد هناك مفاجأة في ما يُحضَّر للبنان.
نكتب من وحي الجوّ العام. نكتب من باب الصحافة. كأنّنا نحكي عن شيءٍ حصل وليس قد يحصل. رائحة الإعادة تزكم الأنوف. «حزب الله» محلّ «الحركة الوطنيّة» ومنظّمة التحرير الفلسطينيّة، و«تيّار المستقبل» محلّ الكتائب والأحرار وحرّاس الأرز. تغيّرت الهويّات الطائفيّة لمواقع الثقل وظلّت قواعد اللعبة على حالها.
ومحلّ «المناوشات» (كأنّهم يقولون «مناغشات») بين عين الرمّانة والشياح عام 1975، «مناوشات» بين بعل محسن وباب التبّانة أو زاروبين في عين الحلوة، ثم استعراض لأحمد الأسير وصراخ لخالد ضاهر وحرق دواليب في كسروان ومعاقبات لبطرس حرب على كونه ضحيّة.
ومقتَلَةٌ في عرسال. كيف يقع الجيش في كمين؟ كيف يدخل بضعة عسكريّين إلى ساحة زاخرة بالخطر؟ وكيف نؤيّد الجيش بتلويث الهواء وخنق الأطفال ومرضى الرّبو والسلّ بدخان الحرائق؟ وكيف ينتشر فجأةً حزب الدواليب ولا يظهر مرّة حزب الشعب الواحد في تظاهرة أو اعتصام ضدّ الفساد والخيانة؟
لا جديد تحت الشمس. التقسيم حصل بدون إعلان. وإذا كنّا نحتاج إلى مَن يذكّرنا ببؤسنا السياسي فقد توافرت لنا البراهين في رأس السنة مع تنبّؤات أصحاب السيادة وصاحبات العصمة من الضاربين بالرّمل. إرهابٌ من نوع جديد. أشخاصٌ عصبيّون لا يتحمّلون مقاطعتهم. يقولون لك بعبوسِ نوستراداموس إنّ الأيّام حبلى بالأحداث وعلى فلان الانتباه إلى صحّته وإنّ الشرق الأوسط سيشهد توتّراً. زعيمهم ميشال حايك صحافي برتبة نبي. فتاهم مايك فغالي يعرف الجواب قبل سماع السؤال. سيّدتهم ليلى عبد اللطيف تقول ما لا يعني شيئاً لتعود بعد «حصوله» وتؤكّد أنّ ما «رأته» حصل. وهناك جمعيّة فَلَكيّة لها هرميّة وتُطلُّ من وراء الغيوم ولها رئيس ونائب رئيس وأعضاء ولحىً ونظّارات وبلّور ومفردات تستعصي على الحسم.
والجميع رغم هذا يرى ويعرف. وإنْ لم يحصل ما يقتلنا سنموت ضجراً على كلّ حال.

 

■ ■ ■
كلّما شاهدتُ عند الفجر عمّالاً وعاملات يسعون في الصقيع والحرّ إلى أشغالهم هتف قلبي: ما أطيب هذا الشعب!
في ظلام الفجر!
من أجل بضعة دولارات.
وحكّامهم يتلاعبون بالمليارات ومعارضو حكّامهم يرتعون في الدور والقصور ويراكمون المليارات.
في ظلام الفجر!
«والله يا أستاذ أنت أوّل زبون» يقول لك بائع الملابس قبل الإقفال، «والله يا أستاذ أنت أوّل راكب» يقول لك شوفور التاكسي آخر الليل.
لكنّ الأراكيل تؤركل بلا أزمة.
وما من برهان على اليأس أوضح من ثقافة الأركيلة.

 

■ ■ ■
لا بدّ من إرهاب فوق هذه الإرهابات. فوقها وأعمق منها.
إرهابُ الشعب بكلّ أطيافه مضروباً بإرهاب النخبة في أطهر أدمغتها.
وهو غير موجود.
بَدَل الانتفاضة الحرّة المحرِّرة يزداد الشعب عدم وجود، ويزداد احتمال تَكوّنه يوماً، استحالة.
كنّا طوائف وصرنا مذاهب وسنصبح مذاهب في المذاهب.
زعماؤنا وحكّامنا يسرقون ونحن الفقراء لله نتسوّل ونتكيّف مع الطعام المسرطن والشراب المسرطن والدواء المسرطن.
كنتُ بالأمس أقرأ في مجلّة «شؤون جنوبيّة» عن قريتين في الجنوب، بصليّا ورامية، لم يبقَ فيهما من السكّان إلّا بضعة أشخاص. عجائز وأطفال. رامية جارة عيتا الشعب 617 هكتاراً «تكاد وأنت تتجوّل في شوارعها تظنّ أنّها خالية من السكّان»، وبصليّا كان عدد سكانها 500 ولم يعد فيها سوى عشرين شخصاً.
وغيرهما في الشمال، وبعضها أُغلقت الأبواب والشبابيك في كلّ منازلها.
فيلم كاوبوي يموت فيه الجميع ولا يبقى حيّاً إلّا المخرج.
أوراقُ خريف تتراقص كالعفاريت فوق الفراغ.
من زمان وهم يُغنّون راجعون، باقون، يا أرض بلادي، الشعب العنيد…
ويا مهاجرين رْجَعوا.
ولماذا يرجعون؟
المقيمون لو استطاعوا لهربوا.

 

■ ■ ■
والآن تونس. ما أشبه التونسيّين بوجه صحّارة اللبنانيّين. إخوتنا من أيّام قرطاجة وأطيب منّا. لا يطالعك في وجوههم غير التمدُّن والنور.
الآن ينعرونهم في اغتيال شكري بلعيد، شهيد اليسار العربي.
أوّلاً البوعزيزي يحرق نفسه وثانياً الأمين العام لحزب الوطنيّين الديموقراطيّين الموحّد في تونس يسقط شهيد الغدر.
في كلّ تاريخ تونس لم تتجاوز الاغتيالات عدد أصابع اليد الواحدة. مجتمعٌ ناهض ومسالم ورائد كبير من روّاد الرقيّ. استشهاد شخص واحد كان كافياً لفرار رئيس الدولة ولإعلان الانتفاضات العربيّة ضدّ الأنظمة الديكتاتوريّة.
ماذا يُراد لتونس؟ مَن يتلاعب بهذا البلد الذي لم يعرف غير البشاشة والنضارة؟
من هنا، على عكس لبنان، انطلقت مفاجأة البوعزيزي الصاعقة.
وهنا، على عكس لبنان، دوّت المفاجأة الإجراميّة.
كان شكري بلعيد يلقّب الحكومة التونسيّة بأنّها «حكومة استعمار قَطَري جديد». وحين اغتيل هوجم أداء الحكومة وحُمّلت مسؤوليّة التسبّب بالجريمة، وقال مؤيّدو الحكومة والإسلاميّون إنّ مدبّري الاغتيال هم «أصحاب المصلحة في إفشال الثورة».
أيّ ثورة؟
رمي هذا الحجر في البركة التونسيّة زلزال. لا نريد تشبيهه باغتيال معروف سعد قبيل اندلاع الحرب اللبنانيّة. نتمنّى أن يكون فداءً عن تونس. فداءً وكفى.
حمى الله تونس.

 

■ «مجاراة المحموم في هذيانه»
اقرأ «مجاراة المحموم في هذيانه» للكاتب (أفضّلها على الشاعر والأديب والروائي والناقد لأنّها أقلّ ادّعاءً وأكثر احتراماً) الكويتي نشمي مهنّا (الدار العربيّة للعلوم ناشرون). شهاداتٌ صادقة ملوَّعة، مجروحة في أحلامها ومثاليّاتها. استوقفتني فصولٌ عديدة بينها «ترجمة الألم»، حول ناديا تويني. «أيّها البلد، أنا أهديك الموت»، من إحدى قصائدها. يقول: «ناديا، أتخيّلها شابّة مارونيّة جميلة، كما قالت لي الصور. لا صورة لناديا على فراش الموت، ولا لقطة لها في أيّامها الأخيرة. ماتت طازجة كعروس مزفوفة إلى أمير الفرح. جبران كذلك مات في نضارته وعنفوان نهاره. أخوه مكرم مات بلياقة تُكابر طيش الموت فاصطدم به. أختهما أيضاً. هل كانوا ينفّذون وصايا الأمّ الشابّة الصغيرة؟
«(…) الآن لا تهمّ قراءتي لسيرة العائلة ولا اكتشافي نسب ناديا للبيت الدرزي العتيق (…) أحبّ ناديا ويكفي، وأحبّ نبوءاتها: أن نتعلّم بعيوننا كيف نغفو في الحلم، ولكن أن نعرف كيف لا نخيف الموت».
هذا الكاتب قريب، قريب جدّاً، كأنّه لم يكن إلّا بيننا.

 

■ هوارد هيوز
نوعان من «الغرباء»: واحدٌ مرتاح في ممارسة غرائبه إلى حدّ يحمل معه الآخرين على تقليده، ممّا يكدّره ويكرّهه بنفسه، وآخر مضطرب مشوّش في ممارسة غرائبه ممّا ينفّر منه الآخرين ويزيده اغتراباً.
قصّة حياة الملياردير الأميركي هوارد هيوز (مثّل دوره في السينما ليوناردو دي كابريو واضطلعت كيت بلانشيت بدور زوجته الممثّلة كاترين هيبورن) مثالٌ لبعض عذابات أفذاذ المشاهير. زعيم الطيّارين، منتج النجوم، بطل مغامرات المال والعشق بنحو عبقريّ أخرق، راءٍ في الأعمال، موسوس نظافة حتّى الجنون، لم تبق أسطورة إلّا ألصقت بهذا الرجل الذي صنع شهرة المشاهير وكان يخاف الحشود ويهرب من المصافحة. مَثَل هوارد هيوز كان وما زال يطرح للجدل مسألة جدوى النجاح وجدوى الثراء وجدوى النبوغ. كم منّا يستطيع القول إنّه صادف مشهوراً أو متفوّقاً أو مليارديراً أو عبقريّاً هانئاً في حياته؟
إذا لم يُصَب في أحبّائه أو في صحّته أو سمعته أصيب في شخصيّته، فإذا بأشباح الميكروبات تسمّم علاقاته وتنتهي بإطاحة عقله.
ما الذي يجرح بلّور التميُّز؟ ما الذي يثقب جناح الصعود؟ ما الذي يعيد الطائر المحلّق إلى الحضيض؟
مَن أنتِ أيّتها العين؟
لماذا الكائنات مرصودة بلا رحمة؟
أنسي الحاج- شكري بلعيد-تونس

أنسي الحاج- تَبادُل أَم لا تبادل؟

 

أنسي الحاج
جريدة الأخبار اللبنانيّة
السبت ٢ شباط ٢٠١٣

■ سوريا في كتاب

«المطالب الصحيحة للشعب السوري، وهي الحريّة والديموقراطيّة والقضاء على النهب والفساد، ومحاسبة اللصوص والمجرمين، وتأسيس دولة عصريّة جديدة، لا يجادل فيها أحد. لكنّ هذه الغايات النبيلة راحت تتحوّل على أيدي الجماعات التكفيريّة والجماعات الثأريّة والطائفيّة والعصابات المقاتلة إلى مجرّد صرخة (…) وما نخشاه هو أن تكون غاية الحرب في سوريا هي فرط الجماعة الوطنيّة وتفكيك الاجتماع البشري السوري، الأمر الذي سيؤدّي إلى فرط الدولة التي نشأت على فكرة العروبة، عقب الاستقلال، وسيكون من المحال إعادة تكوينها إلّا بصورةٍ شوهاء، وعلى هيئة المجتمع المفكّك والمتكارِه والمتعصّب.

العروبة هنا قوّة دمج لمجتمعٍ شديد التعدّد والتنوّع. ومن دون العروبة لن يتمكّن السوريّون من بناء دولة المستقبل القائمة على المواطَنة المتساوية، بل سيتحوّلون إلى سنّة وعلويّين وإسماعيليّين ودروز ومسيحيّين وأكراد وتركمان وشراكسة وإيزيديّين وأرناؤوط وأبخاز، مجرّد متحف بشري لأقوام متناحرة».

في كتابه الجديد «أعيان الشام وإعاقة العلمانيّة في سوريا» (المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر) يقدّم الباحث صقر أبو فخر صورةَ أشعّة مفصّلة للواقع الجغرافي _ السياسي السوري انطلاقاً من القرن التاسع عشر، كاشفاً، وبالتركيز على الأحداث التي راحت تتوالى منذ 1963، عن العوامل التاريخيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة التي تضافرت لتمكين الاستبداد من التحكّم في سوريا.

يعلن أبو فخر «انحيازه التام» إلى تيّار الديموقراطيّة والعلمانيّة في الأقطار العربيّة، «وهذا الانحياز يضعني في مواجهة فكريّة وسياسيّة مع التيّارات الإسلاميّة السلفيّة والأصوليّة معاً، وفي مواجهة مباشرة مع الاستبداد. وخياري هو الدولة الديموقراطيّة العلمانيّة العربيّة التي تكون فلسطين جزءاً عضويّاً من ثقافتها وتفكيرها السياسي وتكون القضيّة الفلسطينيّة ركناً أساسيّاً من سياستها الخارجيّة. وهذا الأمر ليس معروضاً على جدول الجماعات الإسلاميّة المتحرّكة في سوريا اليوم».

يسلّط الكتاب ضوءاً بليغاً على العزلة الأليمة التي صارت إليها فكرة العروبة الديموقراطيّة المتنوّرة. كانت الحكومة السوريّة الأولى تضم وزراء من العراق وفلسطين والأردن ولبنان ومارونيّاً من دير القمر. صورة مصغّرة عن رؤية السوريّين للوحدة. كأن المعلّم بطرس البستاني هو الذي شكّل تلك الحكومة. بصرف النظر عن أصوات متعصّبة تكفيريّة كانت وما زالت تشوّه صورة العرب في جميع بلدانهم، كانت سوريا لا قلب العروبة النابض فحسب بل قلب العروبة العلمانيّة الديموقراطيّة التوحيديّة الجامعة المترفّعة الحكيمة العليمة. وهو ما كتّل ضدّها الجهود الاستعماريّة لتفكيكها ومحاولة تقسيمها منذ الانتداب الفرنسي وسَلَخ ما سُلِخ منها هنا لتركيا وهناك للبنان وهنالك لإسرائيل.

ننصح بمطالعة هذا الكتاب بوجه خاص لأجيال اليوم الذين تُغيَّبُ عنهم حقائق التاريخ. وننصح بمطالعته للمندفعين إلى التيّارات الانغلاقيّة والظلاميّة ليكتشفوا كيف شعَّت فكرة العروبة والدولة العربيّة العابرة الأديان والأعراق من دمشق بني أميّة. وننصح بمطالعته لحكّام سوريا ومعارضيهم معاً، علّهم يجدون حلولاً لمشاكل الأقليّات والقمع والإرهاب والخوف خارج هذا الدم الذي لا ينتهي.

ونضمّ صوتنا إلى صوت الأستاذ أبو فخر في جمعه كذلك بين رفض الاستبداد ورفض الأصوليّات والسلفيّات الإسلاميّة. ومن الهراء اللحاق بموجات المواقف، أيّاً تكن وجاهتها، التي تسمح لأنهار الدمار والدم بأن تستمر في التدفّق. لا بدّ من طرف ثالث فوق النزاع المتوحّل، أقوى من السلطة ومن محاربيها، يحمل مشروعاً ديموقراطيّاً علمانيّاً توحيديّاً ويتمكّن من حمايته وإيصاله.

طرف ثالث نتمنّى أن يكون داخليّاً ولا يجوز أن يكون إلّا داخليّاً. سوريا بحاجة إلى إنقاذ لا إلى غَلَبة.

 

■ انطواء «الآداب»

كلّما توقّفت مجلّة أدبيّة عن الصدور تموت في نفوسنا حوريّة. وداعاً لـ«الآداب». انطفأتْ شمعةٌ عربيّة من لبنان. صدرت بروحين، روح سهيل إدريس المنفتحة والمصارِعة أدبيّاً وروح سماح إدريس الصادقة والمصارِعة سياسيّاً. منذ الخمسينات إلى البارحة حملت «الآداب» مشعل الأدب والفكر أصالةً وتَجدّداً وكادت مراراً تتوقّف عن الصدور لولا الصبر والعناد. الجيل الأوّل من القرّاء كان شديد الحماسة والجيل الثاني شديد الضياع. بات سحر الورق لا يفعل إلّا في جاليات من هنود الذوّاقة الحمر.

مَن منّا، قرّاء وكتّاباً، لم ينشغف بـ«الآداب» إيجاباً أم سلباً. كاد لم يبقَ ذو نور في العالم العربي إلّا أطَلَّ منها أو أطلّ عليها.

وها هي تموت مجلّة في حجم العالم العربي.

 

■ تَبادُل أم لا تبادل؟

هل مَن تراهن عليه في خيالك مسؤول عن فشل رهانك؟

ومَن لم تَنقل له أفكارك هل تعتبره مسؤولاً عن لامبالاته بها؟

«يجب» أن يكون كذلك، في نظر المؤمنين بحتميّة التبادل: فمَن تكرهه لا بدّ أن يكرهك ومَن تحتاجه لا بدّ أن يحتاجك. والأهمّ: مَن تحبّه لا بدّ أن يحبّك.

بشرط أساسيّ وهو أن يكون بين الفريقين إقامةٌ في موجة واحدة، فيتمكّن الواحد من رؤية الآخر ومقاربته مباشرة.

كنتُ من المعتقدين بالتبادل الشعوري، على أن يكون الشخصان كالقابس والمقبوس، على اتصال كهربائيّ أو مغناطيسيّ، هذا يأخذ والآخر يعطي، وكلاهما في الواقع يأخذ ويعطي، فالضوء نتاج الاثنين ولا يعود السلب هنا سلباً صرفاً وإنّما سلْبٌ انتظاريّ يحدوه شوقُ التحوّل بدوره إلى إيجاب. وهو شوقٌ إذا نفد صبره قد ينغمس في اتخاذ المبادرة.

تقلّ نسبة صحّة هذه النظريّة بارتفاع الفوارق العمريّة والمزاجيّة والثقافيّة، وتغدو نقاط القوّة في كفّةِ الصِبا أكبر من عناصر الجذب في كفّة الكهول والكهلات والشيوخ والشيخات. في بعض الأحيان يبدو أنْ لا وجود إطلاقاً لما يحول دون تلاقي الطرفين، ومع هذا لا يتلاقيان. قد يكون العائق خفيّاً، لكنّه موجودٌ بالتأكيد، وغالباً ما نعثر عليه في غرورِ أحد الطرفين وتوهّمه أنّ هذا القَدْر الجارف من الرغبة لديه لا يمكن أن يُقابَل إلّا بمثله.

لا نتحدّث هنا عن المعشاق والمعشاقة، فالحالة الدونجوانيّة منفتحة على «الطريدة» أيّاً تكن شرط تمتّعها بما يفتح الشهيّة. نتحدّث عن تلاقي الراغبين في نمط معيّن.

ونتساءل من جديد: مَن يتحمّل مسؤوليّة عدم تحقّق مثل هذه العلاقات إذا توافرت عناصر الجذب والانجذاب؟ هل هو غيابُ عناصر أخرى؟ أم هو عدم التصارح في تبادل المشاعر واتّكال كلّ واحد على مبادرة الآخر؟

لقد انطلقنا من افتراض وجود التبادل الشعوري حتماً. لكنّ الواقع غير ذلك. الواقع يقول إنّ الحبّ (أو الكره) ليس دوماً متبادلاً، والحبّ من طرف واحد موجود وقد يدوم أكثر من الحبّ المتبادل، ولعلّه يبدو أجمل للمتفرّج عليه كما يتفرّج السائح على معروضات المتحف. ويقول الواقع إنّ «حتميّة التبادل» خرافة ابتكرها عشّاقٌ نرجسيّون لا يصدّقون أنّ هناك معشوقات لا يبادلنهم شعورهم، أو عشّاق جبناء يعتصمون بأوهامهم.

وما أغزر ابتكارات الضعفاء والجبناء!
أيّاً يكن، يبدو كأنّنا لا نختار. لا مَن نحبّه نختاره ولا مَن نختاره. فنحن نجد دون أن نبحث. أو هو يُوْجَدُ لنا…
وعندما لا يعود هذا ولا ذاك تكون الغربة قد جاءت.

عابــرات

انخداعُ الذَكَر بالأنثى هو في الاتجاه الجمالي وانخداعُ الأنثى بالذكر هو في الاتجاه الكمالي.

■ ■ ■

كلّما قيل إنّ العالم يتغيّر تذكّرتُ أنّ المشاعر ذاتها ما زالت تعروني حيال الأشخاص أنفسهم وللأسباب ذاتها.

■ ■ ■

أجملُ ما أحبّه فيكِ أنّكِ متنبّهة لما تُحْدثينه في الآخر أكثر ممّا أنتِ متنبّهة لمشاعركِ حياله.

■ ■ ■

مهما بلغتِ من الأنانيّة فستظلّين وراء الرجل الأناني بمسافات. كلّ شيء في الطبيعة يحدُّ من أنانيّة المرأة، من الخجل إلى حاجة الإعجاب ومن الحَمْل والأمومة إلى ما فُطرت عليه من شفقة. ثم إنّ أنانيّة المرأة مَصْيَدة لها وأنانيّة الرجل مصيدة للآخرين.

■ ■ ■

مهما بلغت المرأة من الذكاء فسيظلّ ذكاؤها قاصراً عن إنارة نفس الرجل أمامها كما ينيرها لها الحَدْس. مهما بلغ الرجل من الفحولة فلن يتوصّل إلى اشتهاء المرأة كما تشتهي المرأة بدون ستارة خياله الحمراء.

 

أعيان الشام وإعاقة العلمانيّة في سوريا

أدونيس مدارات – أصواتٌ تختنق في الحناجر

 

 

الخميس ٣١ يناير ٢٠١٣
- 1 -
أوضِحْ رأيَك. لكن، لا تُصدِرْ أحكاماً:
«كلُّ حكمٍ يحملُ في ذاته شهادةً على ضعفنا»، يقول أندريه جيد، في يوميّاته (1892).
- 2 -
كنتُ دائماً ولا أزال أكثر ميلاً إلى قراءة ما يمكن أن يدلّني على الشّرار الذي بدأ يترمّد في داخلي، وعلى ذلك الذي يتوهّج في الخارج.
 
- 3 -
قلتُ مرّةً: تَنْفيني لغتي نفسها.
أحبُّ أن أضيف اليوم: يبدو لي، أحياناً، أنّ عقلي هو الطّاغية الأوّل الذي يضطهدني وينفيني. فهو لا يتركني أُفصِح عمّا يؤمن به جسدي ويعيشه. وعندما أغضب، وأحاول الخروج على إرادته، يسألني بنعومةٍ ولطف:
- هل تريد إذاً، قتلي؟
 
- 4 -
- لماذا تُعنى كثيراً بالماضي؟
- لأسبابٍ كثيرة. بين أهمّها أنّ الماضي تاريخ الحقائق، جميع الحقائق التي آمن بها أسلافنا، ودافعوا عنها، وبشّروا بها، وماتوا في سبيل بعضها.
تاريخٌ يتيح لي أن أُحسنَ معرفةَ من كان هؤلاء الأسلاف الذين أنحدرُ من لغتهم وثقافتهم،
وإذاً يتيح لي أن أُحسنَ معرفةَ نفسي، وأُحسن التّفكير في حاضري ومستقبلي.
 
- 5 -
العولمة التي حوّلت الكونَ إلى عالم واحد، جعلت التمييز بين «حربٍ عالميّة»، و «حربٍ أهليّة» أمراً صعباً، وقد يكون، في بعض الحالات، مستحيلاً. فكلّ حربٍ «أهليّة»، اليوم، إنما هي، بشكلٍ أو آخر، قليلاً أو كثيراً «حربٌ عالميّة».
لكن، ماذا يفعل المتحاربون؟
ماذا يفعلون بالذاكرة، والتاريخ، بالإنجازات الحضاريّة، بالكتب، واللغة، بالشعر والفلسفة والموسيقى؟ بالتصوير والنّحت والرّقص؟
هل يفكّرون في هذا كلّه، أو في بعضه، وهـــم يرمـون قنابلهم، ويُطلقون صواريخهم، حتى على المقابر والمتاحف والمنارات؟
 
*
كلٌّ منهم يجسّد العدم في كرسيٍّ يجلس عليه، أو تحتَه أو حوله.
 
*
العدَم – الإعدام: أخَوان في اللغة، وفي السياسة.
- 6 -
أسرجتِ الجحيمُ خيولَها،
وهاهي جدرانُ الأفق تنزُّ دماً.
الموتُ ساهرٌ على كلِّ شيء.
 
*
كلُّ حيادٍ فكريّ، إزاء ثقافةٍ تقوم على صناعة الرُّعب، ليس إلاّ إرهاباً. يبدأ هذا الإرهابُ لغويّاً، ثمّ يتحوّل باستمرار، وتبعاً للحاجة، إلى إرهابٍ فكريٍّ سياسيّ.
- 7 -
لا أحبّ أن أستضيف أفكاراً «جازمةً»، «كاملةً»، «نهائيّة».
أحبّ أن أستضيفَ أفكاراً تضطربُ، تحارُ، تتوجّع، تتلمّس، تتساءل، تتعثّر. وأعشقُ مثلَ هذه الأفكار. أسهر معها غالباً. نتحاور. وأصغي إليها تشكو البطالةَ والتشرّد.
- 8 -
ليس التقليدُ سهلاً، كما يُظَنُّ ويُشاع. إنّه ابتكارٌ آخر. في كلّ حالٍ، لا أحبّ أن أقلِّد إلاّ الأجنحة.
- 9 -
«عيشوا مختبئين»، ي قول الشاعر اللاتيني لوكريس.
إن كان لخبرتي في الحياة قيمة، فإنني استناداً إليها، وبقوّتها، أشهد على صحّة ما يقوله هذا الشاعر المفكّر.
 
- 10 -
منذ أن نطق آدم، بدأ صوته يختنق في حنجرة أحد أحفاده، الذي هو أنا.
ومنذ أن قامت حوّاء بخطيئتها الأولى، أُتيح لصوتي أن ينطلق من جديد.
 
- 11 -
كان الأمبراطور الروماني تيبير Tibère يحبّ التشرّد في أنحاء الأمبراطورية هرباً من المدن التي كان يكرهها، وبينها روما نفسها. كان يفضّل أن يعيش منعزلاً، بعيداً، في أعلى ذروةٍ في جزيرة كابري، مشرفاً على البحر.
 
- 12 -
لا مركز في عالم العروبة.
كلُّ بلدٍ في هذا العالم مركز.
كلُّ رأسٍ في هذا البلد مركز. وكلُّ فكرةٍ مركز. وكلُّ بابٍ مركز. وكلُّ نقطةٍ مركز.
عالم العروبة: لا نهايةٌ من المراكز.
ذروةُ التمركُز أو المركزة في هذا العالم: يأبى أن يتحدّث مع مركزٍ يجاوره. يفضّل أن يتحدّث مع مركزٍ آخر، في بلدٍ آخر، في عالمٍ آخر. مركزٌ هو نفسُه هَباء.
 
- 13 -
مَنِ الأوّل؟ سؤالٌ شَغَل أسلافَنا كثيراً.
«الأوائل» : كتابٌ عربيٌّ مشهور للإجابة عن هذا السؤال. لا في الشعر وحده، بل في ميادين ومجالات متنوِّعة وعديدة من نشاط الإنسان. وهو، إذاً، يتحدّث عن الأشخاص الذين ابتكر كلٌّ منهم، في ميدانه، فكرةً لم يسبقْه أحدٌ إليها.
نذكّر هنا، خصوصاً الشعراء، أنّ السَّبْقَ، بالنسبة إلى نقّادنا القدامى، لا يكون في الفكرة أو المعنى، بل في شكل التعبير وفي طريقته. ويذهب بعضهم إلى أبعد: الشاعر الذي يضع «المعنى» السابق في «مَبْنى» أفضل من مبناه السابق، يكون هو المُفَضَّل. بل ويصبح هذا المعنى مَعْناه هو، لا معنى الشاعر السّابق.
والسّؤال هنا هو: أهناكَ حقّاً، بدايةٌ من لا شيء؟ أم أنّ الأصحَّ هو أن يُقال: لكلّ بدايةٍ بداية؟
والأرجح إذاً أن يُقال: ليس هناك في الثقافة بدايةٌ مطلَقة. وما نسمّيه، أحياناً «بداية» ليس إلاّ امتداداً لما سبَقَ، ومتابعة. ليس إلاّ توالُداً، وتنويعاً، وتأليفاً.
 
- 14 -
لماذا «الوحدة؟» تسألك، أحياناً، «الفرادة» ؟
وربّما أضافَت: «الوحدة» تُسلمُ عناصرَها وأشياءها إلى التآكل الداخليّ الرّهيب المتواصل. «الوحدة» إرهابٌ جبّارٌ، غامضٌ ومستسِرّ.
 
- 15 -
لا أسمع صوتَ الحقيقة في عالمنا السياسيّ الرّاهن.
أهي خرساء، أم أنّها تحوّلت، وانقرضت، ولم يبق منها إلاّ ثوبها؟ ثمّ دخل في هذا الثوب جسمٌ آخر اسمه الكذب؟…إلخ، إلخ، إلخ…
- 16-
كثُرت «البطولات»، وتعدّدت ميادينُها.
ألهذا يحلّ «الشيء» محلّ الشخص؟
كأنّ «البطولة» لم تعد داخل الإنسان، بل خارجه.
كأنّ البطل الحقيقيّ، اليوم، ليس «الشخص»، بل «الشيء».
 
- 17 -
زرت، مؤخّراً، معرضاً «واقعيّاً» في باريس، يندرج في «واقعيّات» ما بعد الحداثة. قلت في نفسي، فيما أغادر القاعة:
الواقعيّة في الفنّ،
طريقةٌ مُثلَى للابتعاد عن الواقع.
 
- 18 -
قابيل، الفلاّح الأوّل،
كيف حدث أن بدأ حياتَه بقتل أخيه هابيل؟
كيف يمكن أن يكون عاشق الأرض الأوّل، أي عاشقَ البراءة الأولى، المجرم الأوّل؟
- 19 -
أنظمةٌ يجب أن تنتهي،
ثوراتٌ قائمةٌ منذ فترةٍ، لكنّها لم تبدأ بعد.
- 20 -
أوروبّا: وجودٌ كرويٌّ يتدحرج على جبل النّفط.
لكن، ما أبرع قادتها:
يحوّلون النّفط أوّلاً إلى كراتٍ تتدحرج بين أقدامهم.

 

 

أدونيس

أنسي الحاج- شعوبٌ حلولها مشاكل

أنسي الحاج
جريدة الأخبار اللبنانية

السبت ١٩ كانون الثاني ٢٠١٣

 

لماذا لا أصدّقه؟ سؤال أطرحه على نفسي كلّما انتهيتُ من قراءة مقالٍ لبعض الصحافيّين أو شاهدتُ إطلالةً لمتحدّثين تلفزيونيّين. كلمات هؤلاء منفصلة عن عيونهم، أصواتهم في مكان وصدورهم في مكان آخر.

لا أظنّه نوعاً من الفصام غير الواعي، بل هو في الغالب فصامٌ مقصود.
 
تُعجِب هذه البراعة كثيرين من القرّاء والمشاهدين. كيف؟ لأنّهم أبرياء. حتّى صرتُ أجزم عن هذا أو تلك بأنّهما بريئان لمجرّد انخداعهما بهؤلاء البارعين.
هل من المجازفة الادّعاء بأنّ معظم شهود الزور هم من الأقليّات؟ أوصَلَتْهم ظروف الخوف أو الانتهازيّة إلى التلوُّن فامتهنوا لغة الرياء والنفاق. تبدَّل فيهم، مع المراس، اللسان والقلب. حتّى لو ماتوا سنرتاب بحقيقة موتهم.
لغة الكذّابين لا مفرّ فيها من التصعيد: يبدأ الكذّاب بالتأتأة وينتقل إلى رباطة الجأش، ثم يرتقي إلى الفجور بدافع الحاجة إلى تكليس التزوير حتّى لا يبدأ بالتصدّع.
 
في زمن مضى كانت مقاربة الكتابة بحدّ ذاتها قانون إخلاص. كان الإمساك بالقلم يُرجّف العظام تهيُّباً. كانت درجات الصدق تتفاوت طبعاً ولكنّ المبدأ هو الصدق، وإلّا انفضح الكاتبُ فوراً.
اليوم أتقن المنافقون النفاق حتّى تواروا تماماً في أقنعتهم. وصاروا جموعاً لم يعد القارئ والمشاهد يستطيعان التمييز بينهم وبين غيرهم. لم يعد قادة الرأي من المفكّرين والخطباء والأدباء والصحافيّين إنّما من الدكاترة و«الخبراء الاستراتيجيّين» والنواب والوزراء والوزراء السابقين الذين يداوم مقدّمو البرامج التلفزيونيّة على مناداة الواحد منهم بـ«معالي الوزير» حتّى لو لم يعد وزيراً منذ ثلاثين عاماً. انتقلت مهمّة الرأي من طبقة كانت تخجل إلى طبقة تؤمن بأنّ «الثقة بالنفس» سرّ «النجاح».
 
كما أنّ ثمّة تخصّصاً في الهندسة والطبّ، هناك تخصّص في العهر. وبعدما كانت البيوت السريّة محصورة في بعض الصحافة، أصبحت مواخير على بعض الشاشات. المواقع الالكترونيّة أصرح: هنا تنطلق العصبيّات الطائفيّة والمذهبيّة على سجيّتها بلا رياء. عكس الصحف والشاشات حيث يتبارى مزيّفو العملة ويزدهرون. وفي مختلف الميادين: سياسة دين أدب فنّ. تاريخ جغرافيا اقتصاد مال.
 
أعرف لماذا لا أصدّق هذا الكاتب، ذاك المتكلّم. إنْ لم يقل لي وعيي قالت لي غريزتي. ولا أستغرب. مجتمعٌ قائمٌ على الازدواجيّة والمراوغة كيف لا يلد باطنيّين؟ مجتمعٌ يقيم علاقاته الذاتيّة والداخليّة والخارجيّة على قاعدتَي الطائفية والانتفاع كيف لا يحتضن مأجوريه وأبواقه؟
ولئنْ كنتُ لا أصدّق هؤلاء، في المقابل، هذا الآخر، أصدّقه. حالاً بلا جهد. فهو ينضح بما فيه: مَوْتورٌ صادق طائفي صادق أحمق صادق.
… نُقضّيها هكذا: «وفاقي» «علماني» كذّاب ودموي متخلّف صادق.
والحلّ؟ تسألني.
لا حلّ، أجيبك. نحن شعوبٌ حلولها مشاكل.
 
■ رؤيا مخيفة
نقول لمَن نحسبه ظالماً أو مخطئاً: سوف تندم. قلنا لمَن هلّلوا لاستقالة البطريرك صفير: سوف تتأسّفون عليه. ويوم اغتيال رونيه معوّض: لن نستطيع التعويض عنه. ويوم عزوف فؤاد شهاب عن التجديد: سوف تندمون عليه. ويوم اغتيال كمال جنبلاط: ضيعانه. ويوم اغتيال الحريري: ضيعانه. ويوم وفاة نسيب لحّود: ضيعانه. ويوم وفاة جبران تويني ثم والده غسّان: ضيعانهما. ويوم وفاة عبد الناصر: الله يستر. كذلك يوم وفاة ياسر عرفات وجورج حبش وريمون إدّه وموريس الجميّل. وقبلهم رياض الصلح وبشارة الخوري. وسنبقى نادراً ما نتنفّس الصعداء لغياب أحد وغالباً ما نردّد سوف تتأسّفون عليه. سوف نندم. سنترحّم عليه.
هذا ما كنتُ أظنّ.
إلى أنْ قاطعني صديق قائلاً: لا، بعد قليل لن يحصل ذلك، لأنّه لن يبقى هناك مَن يَنْدم!..
 
■ «صانع الألعاب»
هذا كاتب يولد. كاتب قصّة وشاعر. متمرّد ورقيق. وشفّاف مقهور قاهر. تحيّة لأحمد محسن وروايته «صانع الألعاب» (دار نوفل).
أصعب امتحان يجتازه قارئ كاره للرياضة مثلي هو الصفحات الملأى بتفاصيل المباريات. ومع هذا اجتزتُها لأنّها ما كانت إلّا حيلة للتسلّل إلى السيّد حسن نصر الله. نوعٌ جديد من التنفيس، وعن كبتٍ شيعيٍ جديد. كبتٌ فيه من الاحتقان قَدْر ما فيه من الإعجاب. يمدّ أحمد محسن ويجزر بين التوريّات والمجانسات كأنّه يلعب إلكترونيّاً مع أشباح أعصابه.
قد يحسب الكاتب مهارته في الإحاطة بعالم الكرة وجرأته في تناول شخصيّة نصر الله، لكنّ ألمعيّته هي على الأرجح في تعاطيه مع المرأة. اقرأ فصله عن النادلة، «مربّية الوحوش»، التي أغرم بها لأنّها «تلعثمتْ لأجلي».
يُحسن أحمد محسن السرد الجامع بين الرهافة والتفصيل، بين الشاعريّة والشرح. أكثر ما يعلو بالقصّة هو هذه الفضيلة. هذا، مثلاً، ما يميّز قصص عبّاس بيضون ورشيد الضعيف وهدى بركات. وقبلهم توفيق يوسف عوّاد وخليل تقيّ الدين. لكنّ أفضل الأفضل في كتابته، عندما يرخي العنان للأنا، مهما تَموّهَتْ. وسوف يقيم التوازن المرجوّ عندما يوفّق بين تدفّق الغنائيّة ولجم الاسترسال في الشرح، تاركاً للقارئ فسحةَ تَخَيُّلْ.
هوذا كاتب يولد. شراراته منه وفيه. كم سيتقاتل ويتغيّر! على أمل التخفيف من التَمَسْخُر والإكثار من النبش الحميم والصادق: «قرّرنا أن نكتشف النادلة (…) بحثنا عنها في الفايسبوك بعدما سألتها إليانا عن اسمها. حسناً، سأعترف: فكّرنا في طائفتها أوّلاً. نحن الذين يلعنون ذلك ويلعنون الذين يفعلونه، تذرّعنا بالمزاح لكنّ السوسة نخرت عظامنا».
«حسناً، سأعترف». لنبدأ من هنا ولنكمل من هنا. إذا لم تكن الكتابة مَطْهراً فماذا تكون.
 
■ قصيدة النثر
يخطئ الظنّ مَن يعتقد أنّ شعر النثر قطع كلّ صلةٍ بالوزن والقافية. لقد قطع الصلة الظاهرة فقط. الإيقاع الموسيقي المنظوم حاولنا إبداله بإيقاع منثور، والقافية استعاض عنها شعر النثر بالصدمة _ الدهشة _ المفاجأة.
لا غنىً عن الإيقاع. إذا أخفقت في النهاية تجربة قصيدة النثر _ إذا لم تكتسب أنغامها ومقاماتها الموسيقيّة، إذا لم تصبح، مهما غالت في التنوّع وتمادت في الابتكار وتَعدُّد النبرات، جوقة أصوات غنائيّة، وأوركسترا كلمات ووحدات جُمَليّة ومناخات تحاكي سحر أوركسترا الوتريّات والنفخيّات والبيانوهات، فلماذا المواصلة بها؟ تحرَّرنا من القوالب القديمة لأنّنا أردنا جماليّة أوسع أفقاً ومدى، وغنائيّة تحتضن منحنياتنا كما تعانق مرتفعاتنا، ولغة تنقل ذاتها بقدر ما تنقل ذاتنا، وإدهاشاً صادراً من الحياة الحديثة واصطراعها فينا بين حاضرٍ وحشيّ وماضٍ رؤوف.
إذا لم تتحقّق القصيدة النثريّة الحديثة عبر اعتصار أفضل ما في الماضي وأنبض ما في الحاضر العابر وما قد يتيسّر للحدس والخيال والحلم أن تستشفّه من الغامض والمجهول، وإذا لم تشحن كلّ هذا بإيقاعيّة نابعة من روح الشعر والشعر نابع من روحها، وإذا لم تُشبِع ما يحتاجه الآخر من الشعر، فلماذا مواصلة كتابتها؟
 
■ أغنية بلا تلحين
من قصيدة هجائيّة لعاصي الرحباني رداً على هجائيّة لجورج جرداق في مجلة «الشبكة» 1971، وكان سجالاً ودّيّاً استغرق أسابيع:
«لَمْلِمْ جراحكَ فالجراحُ أغاني
يا قلبُ واسبقني إلى النسيانِ
(…) يا قلب واسبقني إلى وادي الهوى
فأنا وأنت هناك منزرعانِ
(…) أضناكَ أتعبكَ المسيرُ ولم تزَلْ
سُكناكَ أشرعةً لغير مواني
ما بالنا صرنا كليلٍ عابرٍ
كغمامةٍ مجهولةِ الأوطانِ
فتعالَ نسكن في الكآبةِ كلّنا
ونصيرَ زهر الشوكِ والأحزانِ».
 
عابـــــــرات
 
نسمع الموسيقى فنتحرّر من القيود، والموسيقى أسيرة قيودها.
 
 
نتألّف ممّا نفرضه على أنفسنا وممّا نرفضه. إنّهما أقوى ممّا نقول له «نعم»، لكنّهما ليسا أجمل.
نفرضه _ نرفضه: كلمتان تتشكّلان من الحروف ذاتها.
صدفة لا تلعبها علينا اللغة بل الحدس.
 
 
ربّما دون أن ندري، أوّل ما نفعله حين تستوقفنا امرأة هو امتحانٌ متناقض ولاشعوريّ: نمتحن فيها مناعتها وتجاوبها في لحظة واحدة. نريدهما معاً.
نريدها صعبة وسهلة: مناعةٌ تُجدّدُ التحدّي وسهولةٌ تشجّع المعاودة.
 
 
نكتب عمّا نفعل، عمّا نحلم ونريد أن نفعل. لمَ لا نكتب عمّا لا نفعل؟
 
 
الاعتراف هو الحقيقة. الحقيقة اعتراف. كلّ «حقيقة» خارج الاعتراف خطاب مفبرك واعتباطي.

    

 

a_4x-horizontal

أدونيس – كلاّ لن تدخل بيتي

 

مدارات 
جريدة الحياة
أدونيس
الخميس ١٧ يناير ٢٠١٣
 
ـ 1 ـ
تتزايد هيمنةُ العنف على الحياة العربية، سياسةً وثقافةً واجتماعاً. لا أريد أن أسأل: أين الأموات في هذا العنف، وماذا فعلوا؟ أسأل: أين الأحياء، وماذا يفعلون؟
عنفٌ – متاهةٌ لا تولّد غير المزيد من المتاهات، في واقع يزيد الإنسانَ اختناقاً، كلّما ازداد غوصاً فيه.
تحركاتٌ، أعمالٌ، أقوالٌ تنحرف بالإنسان عن إنسانيّته، وتشوّه طبيعته.
عنفُ النهار يجرفه عنف الليل. عنف الأمس «غذاءٌ مقوٍّ» لصحّة العنف غداً. تاريخ دمٍ وأشلاء. تنطمس دروب الضوء وتضطرب المنارات. للأحداث قوّةٌ بطّاشة، لكنّ الرهبة خفيفة، والعبرة أكثر خفّةً. تُصابُ الأشياءُ نفسُها بالغثيان، فيما يقهقه البشر ابتهاجاً، ويصفّقون ويرقصون. للشراسة في هذا كلّه عنادٌ حقودٌ محيّر. حقّاً هناك شيء عصيٌّ على الفهم في هذا الجدل الهذيانيّ المتواصل في تاريخنا، جدل الجريمة – الضحيّة، القاتل – القتيل. ويخيّل لمن يحبّ أن يسافر إلى أبعد في التخيّل والواقع معاً، أنّ العربيّ «يُقتَل» في أوروبا وأميركا وإسرائيل ويُدفن ما تبقّى من أشلائه في أحضان العروبة.
كلاّ ليست هذه فوضى خلاّقة. إنها بالأحرى تفتّت وانهيار.
 
ـ 2 ـ
بأية لغةٍ كتبتَ كتابَك، وهو لا يلقي أيّ حجرٍ في أيّ ماء آسن؟ ولماذا كتبتَه؟
 
ـ 3 ـ
نحتاج أحياناً إلى المرض – هذا الموت الموقّت، لكي يشغلنا بتفاهاته عن موتنا اليوميّ الرهيب الدائم.
 
ـ 4 ـ
أوه… هذا اليوم، رجوت المللَ أن يجثمَ على ركبتيّ، بثقله كلّه، وألاّ يفارقني.
 
ـ 5 ـ
لا نعرف الرؤيةَ الوحدانيّة حقّاً، إذا لم نعرف عُنفَها الخفيّ.
 
ـ 6 ـ
لا يمكن فهم الجسد، إذا نُظر إليه، تجريديّاً، في ضوء الروح. التجريد تعويقٌ ذاتيٌّ للعقل، واغتيالٌ للأشياء.
 
ـ 7 ـ
الخاملون البلداء لا يرضيهم أيّ شيء حتّى وإن كان خارقاً.
 
ـ 8 ـ
أن تكون مواطناً عربيّاً له حقوقه وحرّياته الكاملة، أمرٌ مستحيل في أيّ بلد عربيّ، اليوم. السّبب أنّ النظام السياسيّ – الاجتماعيّ السائد بتركيبه القبليّ – التيوقراطيّ، وشكله الديموقراطيّ الأجوف، لا يتيح الاعتراف بالآخر المختلف، وبحريّاته الفكرية والمعتقدية والجسدية.
ماذا تعني، إذاً، في اللغة العربية كلمة «وطن»؟ أو كلمة «مواطَنة»؟
 
ـ 9 ـ
كان التناقض بين الديموقراطيّة والتوتاليتارية بدَهيّاً، نظراً وعملاً. اليوم، يكاد أن يصبح مجرّد شعار أجوف. فكثير من الممارسات الســــياسيّة الــغربية التي تتمّ باســـم الديموقراطــية، الآن، تبدو كأنــها أشكالٌ من الانحـــياز والتعــسّف، ضدّ حقوق الإنسان وحريّاته، وضدّ مبادئ العدالة والمساواة.
 
ـ 10 ـ
تكاد الحريّة، اليوم، في العالم كلّه، أن تكون انتحالاً، ويكاد الصدقُ أن يكون انتحاراً.
 
ـ 11 ـ
مجرّد فراغ في مهبّ المصادفات: هذا هو شأن كثيرٍ من البلدان في العالم، اليوم. لا يقدر أيٌّ منها أن يحتوي نفسه. ينفجر، وتنفجر معه تناقضاته. يتسلّح كلّ فريق بما لديه وبما يستجديه، أو يُغدَقُ عليه. بالمذاهب والطوائف، بالقتل والنهب، بالعنف في أشدّ أشكاله وحشيّةً. وهذا كلّه يتمّ باسم «الثورة» أو غيرها من الشعارات الضخمة كالحرية والوطن والديمقراطية.
 
ـ 12 ـ
السماء ريفيّة في الريف، ومدنيّة في المدينة.
ـ 13 ـ
لا أنتظر أجوبة عن الأسئلة التي أطرحها على الوجود وعلى نفسي. هذا يجعلني أزداد يقيناً أنّ الإنسان هو نفسه جزء عضويٌّ من سرّ الكون، ومن اللانهاية.
 
ـ 14 ـ
أحتاج في لحظة الفرح إلى من يكون إلى جانبي ويساعدني في احتضانها: أحتاج إلى الحزن.
ـ 15 ـ
بلى، نعيش في عالم لا يستحقّ أن نغضب منه، وإن استحقّ أن نغضب من أجله.
 
ـ 16 ـ
يتأصّل عملي الكتابيّ في نوع عميق من الغمّ والملل، لا أعرف كيف أفسّره. لولا ذلك، لكنت على الأرجح توقفت عن هذا العمل، منذ زمن طويل.
 
ـ 17ـ
أن يوقن الإنسان يقيناً مطلقاً بأمرٍ ما، حدَثٌ لا يصحّ إلا في مجال المعرفة العلمية البرهانيّة.
غير أنّ هذا، بالنسبة إلينا نحن العرب، مسألةٌ عاديّةٌ جدّاً. فنحن نولد في ثقافة هذا اليقين، ونعيش فيها، ونحارب دفاعاً عنها، ونموت من أجل أن تظلّ حيّة.
 
ـ 18 ـ
عندما ننظر إلى ما يحدث في معظم البلدان العربية يبدو لنا أنّ البشر فيها، أيّاً كانت اتّجاهاتهم، لا همّ لهم إلا أن يستيقظوا، ويغتسلوا، ويأكلوا، ويذهبوا إلى عملهم اليوميّ: القتل أو الموت.
ـ 19 ـ
هناك مراتب في الحريّة تتطابق مع مراتب الوعي:
هناك حريات لا ينتج عنها إلاّ الشناعات والأهوال،
وهناك حريّاتٌ تصعد إلى زيارة الكواكب.
 
ـ 20 ـ
حين يكون الجمع ضدّك، فهذا يعني غالباً أنّ الحقّ معك، أو أنّك، على الأقلّ، أقرب إلى الحقيقة من الجمع.
 
ـ 21 ـ
إبادة الآخر، خصوصاً ذلك الذي يُعدّ عائقاً، هدفٌ أوّل لكلّ أصوليّ (دينيّ أو غير دينيّ) يناضل من أجل السلطة.
 
ـ 22 ـ
أمضى حياته باحثاً عن الحقيقة الضائعة.
اليوم، وهو يقترب من الموت، يبدو له أنه هو الذي كان ضائعاً.
 
ـ 23 ـ
القضايا الناجحة؟
لا أحبّ، أحياناً، أن أضمّ صوتي إلى الأصوات التي تهتف لها، لأنّ نجاحها يكون موضع تساؤل: ما وراءه؟ ما معناه؟ ما غايته؟
 
ـ 24 ـ
كان هزيود الشاعر يقول: «أخْفَت الآلهة عن البشر ينابيعَ الحياة».
أسألك، اليوم، هزيود:
«هل تعرف من يخفي عنّا نحن العرب هذه الينابيع؟ هل تجرؤ أن تسمّيه؟».
 
ـ 25 ـ
«الثورة» في الممارسة العربيّة: ذئبٌ وحمَلٌ في جسمٍ واحد.
و «النظام» في الممارسة العربية: سجنٌ حتّى في الهواء الطّلْق.
 
ـ 26 ـ
للزمن في هذا المكان رائحةٌ كريهة.
غريزةُ الفَتْك هي فيه الآمرة النّاهية.
 
ـ 27 ـ
دائماً أقرع بابَ اليأس، ودائماً يطردني، صارخاً في وجهي:
«لن تدخل بيتي».
لكن، لماذا أشعر أنّني لن أشفى منه؟
 
ـ 28 ـ
إن صحّ ما يقوله شاعرٌ عربيٌّ قديم: «وشرُّ البليّة ما يُضحِك»، فإنّ البليّة الأكثر إضحاكاً اليوم هي:
تركيّا «العثمانيّة»، تقود العرب من جديد!
 
ـ 29 ـ
كان تاسيت المؤرخ المشهور يقول: «التاريخ قذر».
هل هذه الصفة، اليوم، كافية؟
 
أدونيس

الجائزة العالمية للرواية العربية أداة للصراعات الإقليمية

 

أشرف كنجو

على مدى قرابة السنتين نواظب أنا وأصدقاء في منتدى اقرأ – المنتدى العربي للكتاب -في دبي على قراءة القائمة الطويلة لجائزة البوكر بنسختها العربية ، أو ما يعرف بالجائزة العالمية للرواية العربية. حيث جمعنا حب القراءة و الرغبة بإلزام أنفسنا بقراءة رواية واحدة على الأقل خلال الشهر، في مدينة كدبي حيث العمل الذي يطيح بكل الوقت ديدن الحياة ونمط معيشي لأغلب ساكني المدينة.

ولما كان الاختلاف على الاجتماع على اختيار رواية معينة ، قرر الأعضاء اتخاذ قائمة البوكر الطويلة كقائمة قراءة على مدار العام، تسهيلا لعملية انتقاء الرواية الشهرية، وربما إيماناً من الأعضاء أن مجرد ترشيح الرواية للجائزة شرط كاف لجعلها جديرة بالقراءة، وأفضل من غيرها من الروايات.

و منذ دخولي المنتدى كان لي اعتراض لم أفصح عنه بداية الأمر متعلق بالجوائز بشكل عام و الجوائز الثقافية بشكل خاص و جمهور الجوائز، من حيث تسليع الذائقة من خلال الجوائز التي لطالما آمنت بأنها تخدم سياسة واقتصاد أكثر مما تخدم الغاية المناطة بالجائزة، فتتحول الظواهر الثقافية إلى كرنفالات احتفالية وعلاقات عامة بعيدا عن الجوهر. وبعد عدة روايات رديئة على كافة المستويات بدأت أتململ حقاً من الموضوع وهو ما لاحظه معظم الصديقات –لإن الصفة السائدة لأصدقاء المنتدى هي من الإناث في ظل عزوف الرجال عن فكرة القراءة على ما يبدو-  في المنتدى، وكان معظمنا في نقاش كل رواية يتساءل عن سبب ترشيح رواية كهذه أو تلك للجائزة، إلى أن خلصت أنا ومجموعة من الصديقات بأن ترشح رواية ما إلى جائزة البوكر هو رهن ردائتها.

في أوائل كانون الأول من 2012 تم الإعلان عن القائمة الطويلة لجائزة الـ 2013 في الدورة الخامسة للجائزة، ولم أستغرب عدم ترشيح رواية فرسان الأحلام القتيلة لمؤلفها ابراهيم الكوني أهم القامات الروائية في وقتنا الحالي للجائزة، كون الكاتب ليس مؤيدا للربيع العربي ومن أهم منتقديه في حين تم ترشيح رواية إلياس الخوري للسبب ذاته، مع الحرص على وضع رواية لوليتا لواسيني الأعرج في القائمة الطويلة كمحاولة لتلميع صورة الجائزة البائسة.
 

اليوم تم الإعلان عن القائمة القصيرة للجائزة مع استبعاد رواية واسيني الأعرج، مع الحرص على اختيار أهم رموز "الربيع العربي" في سوريا علي فرزات كعضو لجنة تحكيم للجائزة هذه السنة على وجه الخصوص دوناً عن السنوات السابقة.

وأحب أن أختتم بجزء من حوار لأسعد الجبوري عن جائزة البوكر العربية أجراه عام 2008 بخصوص جائزة البوكر العربية :

** :بعد عدة مجموعات شعرية اتجهت للرواية و أصدرت 3 روايات،لماذا هذا الاتجاه ، وهل منحتك الرواية ما لم يمنحه الشعر ، وما الذي يمكن للرواية أن تمنحه للشاعر؟

** أسعد الجبوري: كان يوم ذهابي للرواية يوماً عظيماً.كنت هارباً للتو من قبضة الإعدام. وكان عليّ التقاط الأنفاس وكتابة سيرة شخص سياسي معارض حكم عليه بالإعدام، فحاول مغادرة العراق عن طريق مهرب دولي كان يعمل ضابطاً في الأمن الحكومي.ولو لم تقع زوجة ذلك الضابط في غرامه وتحتجزه في منزلها (منزل الشهوات) الحدودي لأيام، لكانت الأمور قد ذهبت باتجاهات أخرى. إن روايتي((التأليف بين طبقات الليل))التي أصدرها إتحاد الكتاب العرب كانت ثمرة ذلك الهروب الأول، ليس هروباً من الشعر،بل من الموت. بعدها كتبت روايتي الثانية ((الحمى المسلحة)) التي صدرت عن الشركة العربية الأوروبية ومن ثم رواية((اغتيال نوبل)) التي تمثل كما أعتقد قفزة في تاريخ الرواية العربية. ولكنها قفزة في فراغ النقد.

** : لماذا لم تدخل بها للمشاركة في جائزة البوكر العربية مثلا؟

** أسعد الجبوري: لقد شاركت العام الفائت. ولكن الأمور كما يبدو كانت شائكة ومعقدة وغامضة.

** : كيف؟

** أسعد الجبوري: لقد أصبحت جائزة بوكر العربية أشبه ببركة للرمال المتحركة. ثمة تناقضات مرعبة. لقد تُركتِْ هذه الجائزة على قارعة الطريق دون تخطيط تقني أو حماية دقيقة. لقد تخلى عنها الإماراتيون بطريقة محرجة، وهو ما أعطى انطباعات غير ودية وطيبة عن الطريقة التي تمت بها تبني مشروع الجائزة ورميها إلى خارج الحضن الخليجي، وكأنها تحمل عاراً!!. فهل تبنت دولة الإمارات مشروع هذه الجائزة من أجل عيون فلانة مثلا؟أم من أجل أمية فلان وسمسراته ؟. ما حدث برأيي يعكس عملاً يؤكد على خطيئة غير مسبوقة تعني إلغاء الشخصية المحلية لدول الخليج.

** : ماذا تعني بذلك .هل ثمة ما يريب مثلا ؟

** أسعد الجبوري: هذا سؤال يوجه إلى مؤسسة الإمارات في أبو ظبي: لماذا تم تسليم لحية جائزة البوكر إلى أشخاص لا يملكون موهبة تؤهل أحدهم للتحكم بمصير الجائزة وآفاق عملها عربياً؟.ما الثقافة العظيمة التي يتمتع بها صموئيل شمعون ليكون رئيساَ للجنة تحكيم هذه الجائزة مثلاً، وهو شخص بسيط لا يملك أية مقومات ثقافية أو نقدية تؤهله لهذا المنصب الذي رُتب إليه ترتيباً. و من هي غالية قباني أو جمانة حداد على صعيد الفقه الروائي أو البلاغة النقدية عربياً لتسند إليهن مثل تلك المهمات مقابل الدولارات والعمولات الجانبية؟ ألست هذه الأسماء أشبه بعملية تدمير مسبقة الصنع للجائزة التي حُددت بأسماء دون معنى على صعيد النقد الأدبي والتحكيم ؟. ألا يوجد في الإمارات العربية المتحدة شخصيات نقدية وثقافية مهمة ومؤثرة ولها باع طويل من أمثال القاص محمد المر والدكتور صلاح قاسم والروائي علي الرز والروائي إسماعيل فهد إسماعيل وطالب الرفاعي ويوسف المحيميد ومحمد عبيد غباش، وعلي أبو الريش وأمين صالح وسواهم من نجوم الأدب ليعهد لهم مسؤولية هذا الجائزة الإماراتية إدارة وإشرافاً وتحكيماً ؟!!.ألا يصاب الإماراتيون بالصدمة عندما يصبح عنوان جمانة حداد ((ص.ب: 280 – جونية – لبنان ))بدلاً عن أبو ظبي عنواناً لإدارة الجائزة؟!!

** : ألهذا السبب قاطعها الكثيرون كما ذكرت الصحافة العربية؟

** أسعد الجبوري: نعم. الروائيون العرب عبروا عن مرارتهم من سوء إدارة الجائزة. لقد غيب القائمون على إدارتها أكثر من ثلاثين روائياً عربياً بسبب العداوات الشخصية والمشاكل الطائفية والانتماءات الإيديولوجية والصراعات الإقليمية.

 

217783_461228087258485_1720611447_n

واسيني الأعرج- شآم القلب والروح

 

أحلام مستغانمي- رواية الأسود يليق بكِ- الكلمة كاملة

 
كلمة متميزة للكاتبة أحلام مستغانمي في معرض الشارقة للكتاب 2012 بمناسبة اطلاق روايتها الجديدة "الأسود يليق بكِ".
 
تناولت مستغانمي مواضيع متعددة في كلمتها الثرية.  في استهلال حديثها قالت:" السوريون أول من يتلقف كتبي ويقرأها …اليوم أشعر بأنه لا قيمة للأدب لا سيما أنني كل يوم أفقد حبيبا هنالك و قارىء في الآن ذاته.."
 
تكلمت عن الدكتور سهيل إدريس وكيف كانت كلما سلمته رواية للنشر تدخل في غياب خوفا من ردة فعل القراء..إلى ان يتصل بها ويقول لها عودي الرواية جميلة… أعلنت أنها مع إصدار هذه الرواية رغم كل النجاحات ينتابها الخوف ذاته ..
 
تكلمت عن نزار قباني وكيف أنه قال لإدريس اتركها تمارس جنونها …أجمل الأعمال تلك التي يكتبها المجانين.
 
ذكرت أن على مكتبها صورة لجمال عبد الناصر إلى جانب صورة أبيها .
 
تحدثت بأنها كلما دخلت على موقع التواصل الاجتماعي الفيسبوك وتجد مليوني متابع لها تشعر بالخوف والفرح معا.
 
تكلمت عن قرائها بتواضع و ذكرت عندما أقرأ تعليقات قرّائي "أشعر بأنهم يفوقنني بلاغة" و أنها تدرس مشروع كتابة كتاب مشترك مع قرّائها و متابعيها على الفيسبوك .
 
بالمختصر لا مجال لحصر ما ورد في الكلمة …وهي تستحق أكثر من متابعة. 
 
على الهامش ازدحم المعرض بشكل منقطع النظير ، و تدافع الناس في طوابير للحصول على توقيع مستغانمي.
 

أدونيس- من ديوان فضاء لغبار الطلع

الهويَّـة ُ ؟ 

قهوةٌ تُسمّى الصّباح ، 
 
في مكان يسمّى الهجرة 
 
حيث يستقبلك شيطانٌ 
 
لا يحملُ في وجهه ، غالباً ، إلاّ الخيرْ .
قهوة

تهافت التنظير الثوري السوري: ياسين الحاج صالح نموذجاً

عبدالأمير الركابي *

عن جريدة الحياة
الإثنين ١٧ سبتمبر ٢٠١٢
 
نصيحتي للاستاذ ياسين الحاج صالح، ان لا يقرر كتابة «تهافت التهافت»، رداً على إشارتي الراهنة الى تهافت التنظير السوري للثورة، او الإنتفاضة، او سيرورة التغيير الجارية. فالإستعارة التي الجأ اليها في العنوان، لا تفصل بين مجالي الفلسفة والتسليم الإيماني، بقدر ما تحاول التنبيه الى ضرورة الوصول الى فهم او مفهوم، لحالة يبدو انها تستمر في فرض قوانينها، غير عابئة بمن ينظّرون لها او يلاحقون مجرياتها. والامر هنا يبدأ ليس من المحاجّة عن الصواب والخطأ، بل عن الخطأ الدائم، فليس في تاريخ العالم العربي، ومنه سورية طبعاً، اي صواب او صوابية نظرية معروفة، لا في التفصيلات ولا العموميات، اما علو بعض الاصوات، فليس للاسف دليلاً على غير ما أشرت، ان لم يكن باعثه النقص والعجز.
ما الذي تغير، او اوحى بالتغيير سوى الحدث نفسه، فحصول «الإنتفاضات»، اوحى للمتابعات بأنها قد غدت حية، موجودة وحاضرة، ان لم تكن فعالة. وهذا يؤكده سيل «الآراء « اليومي الذي لا يحصى، فالجرائد والمجلات والفضائيات، مزدحمه بـ «العارفين» المواكبين، مع اننا لم نصل بعد الى «نظرية» او الى ملامح تصور معقول لما هو حاصل، واذا دققنا بين ركام المتابعات وحاكمناها، سنعثر على ما بدا وكأنه امر جرى تجاوزه او استدراكه. فالإنتفاضات التي حفزت المتابعات، او غطت بحضورها على «عجزنا النظري» المقيم، تنطوي في العمق على ادانة غير معلن عنها لتلك المتابعات. فالشبيبة التي تقود الإنتفاضات والتي أججتها في غير مكان، لا ترى في هذه المتابعات دليلاً لها، وهي تصر على تجاهلها، معتبرة اياها امتداداً لما قبلها، ومع ان بعض صنوف مثل هذه الكتابات يصر على تملق «الثورات «، الا انه لم يفلح ابداً في اي مكان او ساحة في قيادتها، ناهيك عن ادعاء شرف «ادخال الوعي من الخارج» في بنيتها.
من هو منظر الثورة في مصر وفي تونس او اليمن او سورية؟، من هم منظرو الربيع العربي العرب، وماذا قالوا؟ دعونا من كلام الفضائيات العقيم، المحايث، المتملق، المغرض، والمخطط، او كلام الصحف اليومي المستمد من مقايسات تنتمي للماضي ومصطلحاته وعجز منظريه وقصور رؤيتهم. ماذا يقول على سبيل المثال احدهم من السوريين الذين يواكبون بتميز، شؤون الثورة السورية. استمعوا مثلاً لهذا النص البعثي: «واذا اردنا التعبير عن الامر بوضوح فان من لا يدين النظام ويطالب بإسقاطه فوراً فاقد الاهلية الاخلاقية لنقد الثورة او التحفظ على اشد افعالها سوءاً» (مقال لياسين الحاج صالح، «في خصوص الثورة السورية والاخلاق» الحياة، الاحد 19 آب/أغسطس 2012). أليس في هذا تكرار لنفس خطاب الاطلاق الشمولي، نفس مبدأ التقديس بأسوأ تطبيقاته. انه سيف ارهاب، يتلون حسب الإيقاع. بالأمس كان هذا الكاتب مع «سلمية الثورة»، ثم تحول لمناقشة ظواهر العنف التي بدأت تلوح داخلها متوجساً، وها هو اليوم يقول في نفس المقال: «لقد فرضت الحرب على الثورة».
جيد. اذا كان هنالك من يريد تغيير النظام، ولا يريد حدوث ذلك بالعنف بل سلماً، فهل نعده «فاقد الآهلية الاخلاقية»؟. وماذا اذا اعتقد هذا «الثائر السلمي» بأن من يحملون السلاح، هم اعداء الثورة، وانهم يفتقرون «للاخلاق الثورية»؟ وماذا لو اعتبر هذا ان من يتملقون الثورة، ويقبلون كل تبدلاتها، شخص «يفتقر للأهلية الاخلاقية»، ولا يصلح منظراً، او طامحاً لتمثيل هذا الحدث فكرياً؟
ماذا اذا ضاق عامل مسكين، او مزارع، بما يجري، لأنه معني برزقه وقوت عياله يوماً بيوم، فتذمر او شتم الذين يرفعون السلاح، واعتبرهم «دون أهلية اخلاقية»، مع انه في اعماقه يريد إسقاط النظام او حتى لا يريده. السيد ياسين يقول ان الثورة يمكن، او يجب، ان «تنضبط بقواعد واصول عادلة تتوافق مع قيمها»، ما يعني انها ليست مطلقة، وليست قانوناً به تتحدد الاخلاق والقيم، لا بل يمكن ان «تخرج على القواعد والاصول». إذاً لماذا نرفعها الى مقياس علوي، ونجعل الموقف، مجرد الموقف، من إطلاقيتها دليل ضعف اخلاقي او ممارسة لااخلاقية. ما الذي يقوله فعلاً الاستاذ ياسين؟ الا يدرك ان التبرير الذي يورده، يمكن ان يطبق من موقع يتجاوز عنف النظام وفاشيته، بحيث نسطر مقولات وتبريرات الممانعة والثورة، ووحدة الوطن، ومؤامرات الخارج، وكل هذه موضوعات ليس من المستحيل التدليل عليها جزئياً، بحيث ننتهي للقول، بأن كل من يقف ضد هذا المعسكر «فاقد الاهلية الاخلاقية» ولا يحق له انتقاد النظام، هذا برغم ان بعض التصرفات التي يمارسها النظام والشبيحة تحتاج الى ضبط على «الاصول والقواعد».
شيء غريب ما يكرره السيد ياسين، لأنه يعلمنا عن اشياء، وينسى ان يعلمنا شيئاً عن القضية الاهم: ما هي الثورة؟ ما هي الثورة السورية؟ هل يملك هو ان يقول لنا عيانياً ما هو هذا الحدث، ما هي ابعاده الفعليه، كما يمكن لباحث مميز مثله ان يستنتج من تحري معطياته، وعناصره، وتغيراته وما يحيط به، وما يتداخل معه؟
انا شخصياً لا اعرف، او انني اجاهد في متابعة ما يصدر عن الكتاب السوريين، وعن الاستاذ ياسين الحاج صالح والاستاذ ميشيل كيلو في مقدمتهم، إلا انني، ويا للأسف، لم افهم حتى الآن «ما هي الثورة السورية» بالملموس لا بالانشاء والرغبات والتهويم والانسياق وراء المجريات اليومية. نريد ان نفهم لماذا مثلاً كان هؤلاء الكتاب قبل بضعة اشهر، فخورين بسلمية الثورة وامتيازها عربياً وصمودها السلمي، بينما اصبحوا اليوم اقرب الى الفخر بالعنف؟ والمسألة الاخطر التي نريد ان نعرفها، هي ما اذا كانت سورية على سبيل الإحتمال سائرة الى التدمير لا الى «التغيير»؟ وفي هذا المجال يساورنا قلق شديد، لا نجد ان احداً من كتاب ومواكبي ومنظري الثورة السورية، ينكب عليه محاولاً إقناعنا (ومرة اخرى بالملموس لا بالإنشاء) بان ما يحدث إنتقال الى الامام، نحو المستقبل، وان الادلة على ذلك موجودة في تضاعيف وسياقات وآليات وديناميات الثورة الجارية.
مثل هذا الجواب اهم بكثير من المحاجّات الاخلاقية على اهميتها، بخاصة، مثلاً، اذا نظرنا الى تجربة مثل تلك التي عاشها العراق، وما زال البعض مصراً على أنها، رغم الكارثة، إنتقال بعملية قيصرية، نحو «الديموقراطية»؟
 
* كاتب عراقي
 
ياسين الحاج صالح
© 2013 www.ashrafkanjo.com