يعدّد الفارابي أربعةَ أنواعٍ من المدن (أو المجتمعات) الفاسدة: المدينة الجاهلة، المدينة الفاسقة، المدينة المُبَدِّلة (أي التي انطلقت من مبادئ صحيحة ثم تنكّرت لها) والمدينة الضالّة. خلاصة القول إن الزَيَف والكذب وتكديس المال والتسلُّط والقهر والفوضى والخداع والاحتيال والنذالة هي القواسم المشتركة بين هذه المدن.
ما يسمّيه الفارابي مدناً فاسدة كانت فاسدة في نظر مثاليّي عصره، أي القرن العاشر، وما قبله عصور سقراط وأفلاطون وأرسطو وبودا والمسيح، وقد باتت في ما بعد قبلةَ الشعوب ومرمى آمالها. (كان الفارابي مجايلاً للمتنبّي، وكلاهما عاشا حقبة في حلب، وكانا مقرّبين من سيف الدولة الحمداني. واللافت أن سيف الدولة كان يتبرّم من صلف المتنبّي وكبريائه، كذلك كان، رغم إعجابه بفكر الفارابي، يتضايق من غرابة مَلْبسه وبوهيميّة سلوكه، ممّا أسخطه عليه فأبعده عنه). هل هناك نوعٌ من التطهُّر عن طريق الفساد؟ ذكرنا في البداية الراهب الروسي الخليع الرائي الشافي العجيب راسبوتين. وله أقرانٌ في تاريخ المسيحيّة، غربيّة وشرقيّة. لكنّ فساد راسبوتين كان فساد شخص لا مدينة، وحظوته لدى القيصرة كانت حظوة شخصٍ لا شعب.
للجواب، نأخذ مدناً حديثة كنيويورك وطوكيو ولندن وباريس… هل نستطيع أن نقتطع لكلّ منها نعتاً واحداً؟ ماذا كان الفارابي سيسمّي هذه المدن؟ لا حاجة للتفكير كي نلقى الجواب: لقد أوجد الغرب (لنعتبر اليابان الجديدة جزءاً منه) المعادلة التي تريحه وتقيم التوازن بين مبادئ ثوراته، وأهمّها الثورة الفرنسية 1789، وبين رفاهيّة العيش. بين حقوق الإنسان المعنويّة والأخلاقيّة وحقوقه الاجتماعيّة. بين القانون والتمتُّع بالعيش. بين الدولة والفرد.
ماديّة على خلفيّة القانون، وحريّات مقدّسة على خلفيّة الدولة أُمّ الجميع.
المفهوم الدينيّ لم يعد أساساً في شريعة المدن الحديثة.
هذا هو جوهر العَلْمنة.
لا خطيئة في ظلّ العلمنة لأنّ لا أسطورة معها، لا ثواب ولا عقاب إلّا بميزان العمل والجهد. المجتمع هو عشرات بل مئات بل ألوف المجتمعات في المجتمع الواحد، الحريّة حقّ طبيعيّ بديهيّ لكلّ واحد والقانون هو المَرْجع.
لا حاجة للتطهُّر في المدن الحديثة. وهذا هو أخطر شعور يمكن أن يتملّك إنسان هذه المدن. انتفاءُ الشعور بالحاجة إلى نورٍ يغمرنا، إلى الصعود درجة أبعد في سلّم الروح، هو ضرب من انسداد الشرايين. الإشباع الاجتماعي والمدني ليس نهاية. هو إحدى الغايات ومكافأة صغيرة على معاناةِ عصورٍ من الظلم. مكافأةٌ لا تسقي عطشاً قد يرتدي أحياناً قناع النسبيّ، لكنه عطشٌ إلى مُطْلَق. ونظنّ، بالعكس، كلّما تقدّم الإنسان على طرق الرفاهيّة والتمتُّع بالحقوق وابتكار حقوق جديدة والسعي إليها وتحقيقها، تزايدت حاجته إلى البُعْد الظلالي، إلى ما وراء أعضائه، إلى خلاصٍ من المحدود والمنتهي والمُكرّر والمُعاد، إلى ما يُشعره بالتحليق، باختزال الأبد، باحتطاب الشجر المسحور.
إلى عدم الموت، بالإضافة إلى الموت، جفافاً روحيّاً. يكفيه تهرّؤ أعضائه وتحلُّل بدنه. لا يريد سعادة حياة ريّانة بالقانون وميتة بالتطلُّع والشوق.
رغم القفزات الهائلة اجتماعيّاً وتمدُّنيّاً وحضاريّاً، لا يزال الإنسان رهين الصحراء. بل أصبح أوثق ارتهاناً لها. كيف ينجو؟ هل من خلاص؟